سورية الجميلة RSS خدمة   Last Update:23/12/2025 | SYR: 15:28 | 23/12/2025
الأرشيف اتصل بنا التحرير
TopBanner_OGE



خلطات كامبو


شاي كامبو


IBTF_12-18


qnbrepated

 التخطيط الاقتصادي السوري بوصفه درع حماية ضد وصفات الجوع الدولية
23/12/2025      

202512151441-main_cropped_1765784481_result

سيرياسيبس

بينما يلملم السوريون جراح عقد ونصف من الحرب والدمار، تبرز في الأفق معركة «هوية الاقتصاد» بوصفها معركة لا تقل ضراوة عن معارك الميدان. وقد بدأت تتعالى في المشهد الاقتصادي والأكاديمي السوري اليوم أصوات تدعي الحداثة، وتروج لموت فكرة «الاقتصاد المخطط» وتصوره كجثة هامدة خلفها الاتحاد السوفييتي وراءه. ويحاول هؤلاء الأكاديميون الذين يرتدون عباءة العلمية الزائفة إقناعنا بأن الحل الوحيد لنهوض سورية هو «تحرير السوق» بالكامل وترك المبادرة له في ظل رفع يد الدولة عن كل شيء، وخصخصة الأصول الوطنية بدعوى ضرورة تأمين الكفاءة الاقتصادية. لكن الحقيقة التي يتغافلون عنها، أو ربما يغطونها قصداً، هي أن هذا الخطاب الذي يصور نفسه كمجرد رأي اقتصادي هو تمهيد سياسي لتسليم ما تبقى من مقدرات البلاد لنخب جديدة تتغذى على ركام الدولة وتهدد بإعادة إنتاج الانفجار الاجتماعي السوري بوتائر أعلى. إن تصوير التخطيط الاقتصادي كمرادف للفشل أو الاستبداد هو مغالطة تاريخية ومعرفية كبرى، فالتخطيط في جوهره هو الإدارة الأمثل للموارد، بينما السوق مطلق اليدين في بلد مدمر يعني ببساطة سيادة قانون الغاب، حيث يلتهم القوي الضعيف، وتتحول إعادة الإعمار إلى وليمة كبرى للفاسدين وأمراء الحرب ووكلائهم، على حساب الملايين الذين يحلمون بمسكن وخبز وكرامة في وطنهم.

من المثير للريبة والدهشة في آن واحد، أن تجد أكاديميين واقتصاديين سوريين، يفترض أنهم يدركون خصوصية الحالة السورية والدمار الذي أصابها، يتبنون بانسياق كامل وصفات جاهزة معلبة في أروقة المؤسسات الدولية التي لم تجلب لبلدان ما يسمى بـ«الجنوب العالمي» إلا المديونية والفقر والتبعية.
الهجوم المتزايد على الاقتصاد المخطط بحجة أنه «عفا عليه الزمن» هو قفزة انتحارية في الفراغ، فالدول التي توصف اليوم بأنها نمور وحتى الاقتصادات التي توصف بالمتقدمة لم تصل إلى ما وصلت إليه بالاعتماد على صدف السوق أو العشوائية، بل عبر خطط مركزية صارمة، وتدخلات حكومية مباشرة وجهت الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة وحمت صناعاتها الناشئة. إننا أمام محاولة كيّ وعي جماعي للسوريين، لإقناعهم بأن الدولة يجب أن تكون مجرد حارس لثروات النخب، بدلاً من أن تكون الجهة الناظمة لعملية تنمية شاملة تضمن العدالة الاجتماعية وتمنع تركز الثروة في يد فئة فاسدة استغلت الحرب لتراكم الأموال وتتحين الآن الفرصة لشرعنة نهبها.

كذبة «السوق الحر»في المعاقل الرأسمالية


لطالما سوق لنا أن الغرب الرأسمالي هو جنة المبادرة الفردية المطلقة، حيث لا تتدخل الدولة في الأسعار أو الإنتاج، وأن التخطيط هو مجرد «بدعة شيوعية» فاشلة أدت إلى طوابير الخبز وانهيار الدول. ولكن، نظرة فاحصة وموضوعية على الاقتصادات الرأسمالية التي توصف بالمتقدمة اليوم تكشف زيف هذه الادعاءات بالكامل. فما يمارسه الغرب اليوم هو تخطيط مباشر بامتياز، ولكنه يغلفه بأسماء بديلة مثل «السياسة الصناعية» و«الأمن القومي الاقتصادي» أو حتى «التحول الأخضر». الحقيقة هي أن الدولة في تلك البلدان لا تزال لاعباً أساسياً في العملية الاقتصادية، وليست مجرد مراقب سلبي كما يحاول البعض إقناعنا.
تشكل الولايات المتحدة الأمريكية، وهي معقل الرأسمالية العالمية، مثالاً صارخاً على ذلك: هل تركت واشنطن صناعة الرقائق الإلكترونية أو تكنولوجيا الفضاء أو الطاقة المتجددة لقوى السوق العمياء؟ الجواب القاطع هو لا. حيث ضخت الحكومة الأمريكية، وما تزال، مئات المليارات من الدولارات عبر قوانين رسمية من قبيل قانون CHIPS Act وقانون Inflation Reduction Act. هذه القوانين ليست سوى «خطط خمسية» بطابع أمريكي، حيث تختار الدولة القطاعات التي تضمن تفوقها، وتدعمها بالمال العام، وتضع لها أهدافاً إنتاجية وزمنية محددة، بل وتفرض قيوداً على تصدير تكنولوجياتها. وهذا هو التخطيط المركزي في أكثر صوره وضوحاً.
في القارة الأوروبية، وتحديداً في ألمانيا، نجد أيضاً تخطيطاً دقيقاً ودعماً مباشراً لقطاعات واسعة، فالزراعة في أوروبا لا تعيش إلا بفضل الدعم الحكومي الهائل الذي يكسر كل قواعد «المنافسة الحرة» التي يحاولون بيعها لنا في سورية. الدولة هناك تتدخل في سوق الإسكان، وتحدد أسعار الإيجارات في كثير من الأحيان، وتدير منظومات تعليمية وصحية بميزانيات كبيرة.
وفوق ذلك، أثبتت الأزمات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، من أزمة عام 2008 وصولاً إلى جائحة كورونا، أن الرأسمالية «تؤمم الخسائر وتخصخص الأرباح». حين انهارت البنوك الكبرى وشركات السيارات، لم تتركها الحكومات الغربية لـ«حكم السوق» العادل لكي تعلن إفلاسها، بل تدخلت بخطط إنقاذ مركزية ضخمة، مستخدمة أموال دافعي الضرائب لترميم ما أفسدته «المبادرة الخاصة». هذا التدخل إذن هو ركن أساسي في بنية هذه الأنظمة التي تدرك أن الفوضى هي عدو الاستقرار الاقتصادي.
الحقيقة التاريخية التي يتم تغييبها هي أن أكبر الابتكارات التي تنعم بها الشركات العالمية الكبرى (مثل آبل أو تسلا) لم تكن نتاج عبقرية السوق الفردية وحدها، بل نتاج بحوث علمية وتكنولوجية مولتها الدولة من المال العام عبر عقود من التخطيط العسكري والعلمي. من الإنترنت، إلى الـGPS، مروراً بشاشات اللمس، كلها نتاج «دول مخططة» استثمرت في البحث العلمي لضمان تفوقها الخاص.
الأصوات التي تروج لنهاية عصر التخطيط تتجاهل أن العالم لا ينقسم اليوم إلى «سوق حر» و«اقتصاد مخطط»، بل إلى دول تخطط لمصالحها وترسم تطورها ودول «يُخطط لها» لتبقى سوقاً مفتوحة ومستعمرة اقتصادية بائسة. وهم بذلك يبيعوننا وهماً تجاوزه الغرب منذ زمن.

وصفات الصندوق والبنك الدوليين التي جربناها


عندما نسمع تلك الدعوات المتكررة لترك المجال للسوق فقط وتفكيك دور الدولة الاقتصادي في سورية، يجب أن نبحث فوراً عن بصمات «إجماع واشنطن» ومؤسساته المالية الدولية. فصندوق النقد والبنك الدوليان هما في الجوهر أدوات لهندسة نظام مالي عالمي يضمن تدفق الثروة من المحيط إلى المركز. وفي حالة بلد مدمر مثل سورية، تأتي هذه الوصفات لتؤدي دور رصاصة الرحمة على ما تبقى من إمكانيات لإعادة الانطلاق الاقتصادي السوري، تحت مسميات «الإصلاح الهيكلي» و«الانفتاح». وهؤلاء الذين يروجون لهذه الوصفات يشاركون في جريمة تاريخية تهدف إلى إبقاء سورية عند عتبة معينة من «اللاتطور» التي لا تخدم سوى القوى الخارجية والنخب المحلية المرتبطة بها.
سبق أن بادر العديد من المنظرين الاقتصاديين في العالم لشرح كيف أن كل الدول «المتقدمة» بلا استثناء، من بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر إلى أمريكا واليابان وكوريا، استخدمت التخطيط المركزي الصارم، والحماية الجمركية العالية، والدعم الحكومي المباشر للصناعة الوطنية لتصعد سلم التطور الصناعي. ولكن، بمجرد وصول هذه الدول إلى القمة وامتلاكها القوة، قامت بالترويج لعكس هذه الوصفة للدول النامية، وأجبرتها عبر صندوق النقد والبنك الدوليين على تبني السوق الحر والتجارة المفتوحة والخصخصة. والهدف واضح من ذلك منع أي دولة جديدة من الصعود والمنافسة، وإبقاء الدول النامية في دور المزود للخدمات والعمالة الرخيصة. وهذا بالضبط ما تفعله الوصفات المقترحة لسورية اليوم، أي تجريد سورية من سلاح التخطيط الذي قد يخرجها من نفق التخلف.

تعتمد وصفات هذه المؤسسات الدولية على ركيزتين مدمرتين في سياق بلد مثل سورية: التقشف المالي والخصخصة السريعة. التقشف يعني رفع الدعم عن الوقود والخبز والكهرباء والتعليم، وهو ما يترجم فوراً إلى المزيد من الإفقار للمواطنين السوريين الذين طحنتهم الحرب. والخصخصة تعني بيع معامل القطاع العام ومرافق الدولة (التي بُنيت بعرق السوريين وضرائبهم عبر عقود) لنخب الفساد الكبير القديم والجديد بأسعار بخسة.
إن كذبة الاقتصاد الحر التنافسي تفترض وجود بيئة تنافسية عادلة وقضاء مستقل وشفافية، ولكن في الواقع السوري المرير بعد 15 عاماً من الحرب، من هم الذين يمتلكون السيولة والقدرة على التنافس وشراء الأصول؟ إنهم أمراء الحرب، والتجار الذين راكموا ثرواتهم من دماء السوريين، فضلاً عن بعض الشركات الأجنبية التي تنتظر الانقضاض على العقود الاحتكارية.
الدعوات لترك كل شيء لليد الخفية للسوق في سورية هي دعوة صريحة لتعطيل أي إمكانية للنهوض بالاقتصاد السوري مجدداً. وهي محاولة لضمان عدم تكرار تجارب التنمية المستقلة التي جربتها عدد من دول العالم بعيداً عن وصفات المؤسسات الدولية. الانصياع لهذه الوصفات سيعني بقاء سورية في حالة من الفقر الدائم، حيث تتركز الثروة في يد الأقلية الطبقية الفاسدة، بينما يغرق بقية الناس في الفقر المدقع، تحت شعار ترك السوق لقوانين العرض والطلب.

التخطيط كضرورة وجودية في سورية «ما بعد الحرب»


بعد نحو 15 عاماً من الصراع والتردي الاقتصادي الاجتماعي، لم يعد الحديث عن الاقتصاد المخطط مجرد ترف فكري أو خيار أيديولوجي ينتمي لليسار أو اليمين، إنما ضرورة وطنية وأخلاقية ووجودية. فسورية ليست في وضع اقتصادي طبيعي يسمح بترف التجريب في نظريات السوق الحرة التي فشلت حتى في بلدان مستقرة. نحن أمام بلد يحتاج إلى إعادة بناء مدن كاملة سويت بالأرض، وإحياء شبكات كهرباء ومياه وصرف صحي، وترميم منظومات تعليمية وصحية منهارة. فهل يستطيع السوق والمبادرة الفردية وحدها القيام بهذا العبء التاريخي؟ قطعاً لا، لأن المنطق الجوهري للسوق هو الربح السريع، بينما المنطق الجوهري لإعادة الإعمار الوطني ينبغي أن يكون المصلحة الوطنية المستدامة.
تجارب التاريخ والواقع اليوم يخبراننا أن السوق لا يبني بنية تحتية في مناطق دمرتها الحرب إذا لم يضمن أرباحاً خيالية فورية. فالسوق لن يستثمر في إعادة إعمار مدرسة في قرية نائية في ريف إدلب أو مركز صحي في دير الزور أو مخبز آلي في أحياء حلب المدمرة، لأن العائد على الاستثمار في هذه المناطق ضعيف وغير مغرٍ لرأس المال الخاص. وهنا تبرز الحاجة الماسة للدولة المخططة، فهي الجهة الوحيدة القادرة على توزيع الموارد المحدودة بعدالة جغرافية واجتماعية، وهي الوحيدة التي يمكنها توجيه الرأسمال نحو الاحتياجات الحقيقية للشعب بدلاً من الرغبات الاستهلاكية للنخب.
إننا في سورية بحاجة إلى ما تصفه الاقتصادات الحديثة بـ«اقتصاد المهمة»، والمهمة الوطنية الكبرى اليوم هي: إعادة توحيد السوق السورية، وإعادة تشغيل الاقتصاد، وتأمين السكن الكريم لكل مهجر، واستعادة القطاع الزراعي، وتوطين التكنولوجيا الصناعية. وهذه أهداف لا تتحقق إلا بخطة وطنية شاملة تفرض على القطاع الخاص العمل ضمن إطار المصلحة العامة، وليس فوقها. والتخطيط في سورية المستقبل يجب أن يرتكز على عدة ركائز أساسية أولية:
أولاً، حماية وتحفيز الصناعات الوطنية الناشئة. حيث لا يمكن للمصانع والورش السورية التي نهبت وتدمرت أن تنافس البضائع المستوردة التي تدخل السوق مدعومة من بلدان منشئها. التخطيط هنا يعني فرض حماية جمركية عادلة، وتقديم قروض بدون فوائد للمنتجين، وضمان سوق لتصريف منتجاتهم. هذا التدخل هو الذي سيخلق فرص عمل حقيقية، لا وظائف الخدمات الهشة التي يروج لها دعاة الانفتاح.
ثانياً، تأمين التمويل لدعم القطاعات الأساسية. حيث يجب أن تُوجه هذه الأموال عبر خطة الدولة نحو الإنتاج الزراعي والصناعي، بما يؤمن إعادة نهوضهما بالتدريج.
ثالثاً، العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد. فالتخطيط هو الأداة الوحيدة لضمان ألا تذهب ثروات البلاد إلى جيوب قلة من الفاسدين. يجب أن تكون هناك شبكة أمان اجتماعي صلبة، وتعليم وصحة مجانيان بجودة عالية، ممولة من نظام ضريبي تصاعدي حقيقي يطال الثروات الكبيرة.
إن النخب التي تروج لمقولة أن الاقتصاد المخطط قد عفا عليه الزمن تريد في الحقيقة دولة ضعيفة يسهل اختراقها والسيطرة عليها من كبار الفاسدين. بينما التخطيط الواعي يعني دولة قوية بمؤسساتها، قادرة على حماية لقمة عيش مواطنيها من تقلبات الأسعار العالمية ومن الفساد المحلي.

قاسيون


طباعة هذا المقال طباعة هذا المقال طباعة هذا المقال أرسل إلى صديق

 
 

سورس_كود



Baraka16


Orient 2022


معرض حلب


الصفحة الرئيسية
مال و مصارف
صنع في سورية
أسواق
أعمال واستثمار
زراعـة
سيارات
سياحة
معارض
نفط و طاقة
سوريا والعالم
محليات
مجتمع و ثـقافة
آراء ودراسات
رياضة
خدمات
عملات
بورصات
الطقس