سيرياستيبس
من العاصمة السعودية الرياض، وفي الـ13 من مايو (أيار) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أنه سيرفع جميع العقوبات عن سوريا "ليمنحها فرصة"، وذلك بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وبعد لقاء الرياض بنحو ستة أشهر، توجهت جهود رفع العقوبات بتوقيع ترمب على قرار يتضمن إلغاء نهائياً لقانون قيصر الذي يعد أقسى العقوبات على سوريا، وبذلك تنتهي حقبة العقوبات التي كبلت البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي، وتضاعفت خلال الأعوام الـ10 الأخيرة. خلال عام 2025، كان السوريون يطالبون برفع العقوبات للبدء في عملية إعادة الإعمار، والعائق الأكبر اليوم أصبح من الماضي، فما الذي ينتظره السوريون قبل البدء الفعلي في إعادة بناء البلاد التي درمتها حرب من أقسى حروب الألفية الجديدة؟
إلغاء العقوبات الأميركية بصورة كاملة، يعد ضوءاً أخضر للشركات العالمية للدخول إلى السوق السورية، وهو أيضاً مؤشر ثقة باستقرار طويل الأمد تريده واشنطن لسوريا التي تحظى بدعم عربي وإقليمي غير مسبوق، وبين هذا وذاك ينتظر المواطنون وعود المسؤولين مثل وزير الخارجية الذي سبق أن قال إن "عام 2026 سيكون عام التنمية في سوريا". بين النص والتطبيق
من المنظور العام يرى متخصصون في الاقتصاد أن سوريا أصبحت مؤهلة للاقتراب من بدء عملية إعادة الإعمار، لكن لا تزال هناك تحديات تحتاج حلولاً نهائية للتفرغ للاقتصاد والتنمية، أبرزها الملف الأمني، وعلى وجه التحديد قضية شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وقضية السويداء التي تحتاج هي الأخرى حلاً جذرياً يثبت قدرة الرئيس أحمد الشرع على توحيد البلاد.
الصحافي السوري أسامة الأحمد، تحدث لـ"اندبندنت عربية"، عن أن "رفع العقوبات يمثل شرطاً أساساً وضرورياً لكنه غير كاف، فالشركات العالمية لا تنظر فقط إلى القوانين الدولية، بل تضع في حساباتها أخطار الاستقرار السياسي والأمني، ووضوح القواعد الناظمة للاستثمار، وإمكانية حماية رؤوس الأموال على المدى الطويل". ويضيف أن "التجربة العراقية بعد عام 2003 أو الليبية بعد عام 2011 تظهر أن فتح الباب القانوني من دون إصلاحات مؤسساتية عميقة قد يؤدي إلى استثمارات انتقائية ومحدودة، بدل انطلاق عملية إعادة إعمار شاملة ومستدامة". العائق الأمني
ويرى الأحمد أنه "على المستوى الأمني، لا تزال المخاوف تمثل العائق الأبرز أمام أي إعلان رسمي لبدء إعادة الإعمار، خصوصاً في ظل واقع جغرافي وسياسي لم يحسم بالكامل بعد، فعدم توحد البلاد تحت سلطة أمنية وعسكرية واحدة، واستمرار وجود قوى مسلحة ذات مرجعيات مختلفة في بعض المناطق، يثير قلق الشركات الدولية التي تعتمد في قراراتها الاستثمارية على معايير صارمة لإدارة الأخطار، كما أن أي شركة كبرى، خصوصاً في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، لن تدخل بيئة غير مستقرة أمنياً، إلا إذا حصلت على ضمانات واضحة من الدولة، أو من قوى دولية راعية، وهو أمر لم يتبلور بعد في الحالة السورية".
ويستدرك الصحافي السوري أنه "على رغم ذلك فإن المشهد الأمني في سوريا، مع أنه معقد، فإنه قد يكون أقل خطورة مما يبدو عليه في بعض المناطق، بخاصة تلك التي شهدت استقراراً نسبياً خلال الأعوام الأخيرة، فربما تبدأ بعض الشركات الصغيرة أو المتوسطة العمل تدريجاً في مناطق تصنف على أنها منخفضة الأخطار، مثل العاصمة دمشق وبعض المدن الكبرى قبل التوسع لاحقاً، إلا أن هذا السيناريو، لن يرقى إلى مستوى إعادة إعمار وطنية شاملة، بل سيبقى محصوراً في مشاريع جزئية وانتقائية". مؤتمر إعادة إعمار في الرياض
المستشار الأول في وزارة الاقتصاد السورية الدكتور أسامة القاضي، يؤكد في تصريح خاص، أن "هناك بالفعل تحديات قبل بدء عملية كبرى لإعادة إعمار سوريا الجديدة، إذ إن البنية الاقتصادية والمصرفية لا تزال هشة، وهذا يشكل أحد أبرز العوائق، فالنظام المصرفي السوري يعاني ضعف الثقة، وغياب الارتباط العملي بالشبكات المالية العالمية، إضافة إلى محدودية قدرته على تمويل المشاريع الكبرى أو ضمان تحويل الأرباح ورؤوس الأموال، وهي عناصر أساسية لأي استثمار دولي واسع النطاق، إضافة إلى ذلك يأتي ضعف التشريعات الناظمة للعمل المصرفي، وهذه كلها عوامل تجعل الشركات الأجنبية مترددة في دخول السوق السورية، حتى بعد زوال القيود القانونية".
ويوضح أنه "في هذا السياق، يبرز مقترح عقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار سوريا في العاصمة السعودية الرياض، برعاية أميركية ومشاركة مؤسسات مالية دولية، كخطوة مفصلية لمعالجة هذه المعضلات، عبر وضع خريطة طريق لإصلاح القطاع المصرفي، وتقديم ضمانات سيادية واستثمارية، وإعادة دمج سوريا تدريجاً في النظام المالي العالمي، ومثل هذا المؤتمر قد يشكل الجسر العملي بين رفع العقوبات والبدء الحقيقي بإعادة الإعمار". توافق عربي- تركي على دعم سوريا
النائب في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، آيدن آغا أوغلو، ينبه بدوره إلى أنه "منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، اتفقت كل من تركيا والدول العربية على ضرورة دعم وحدة واستقرار سوريا وإعادة إعمارها، وكان الملف السوري واحد من أبرز الملفات التي اتفقت فيها وجهات النظر بين تركيا والدول العربية، بعدما عانى الشعب السوري بما فيه الكفاية، واليوم يجب علينا كجيران الوقوف إلى جانب السوريين لإعادة إعمار بلدهم، ويمثل التعاون العربي– التركي ركيزة أساسية في إنجاح مسار إعادة إعمار سوريا خلال المرحلة المقبلة، لما يحمله من تكامل جغرافي واقتصادي وسياسي يصعب تعويضه بأي شراكة أخرى، فتركيا بحكم موقعها الجغرافي وخبرتها الواسعة في مشاريع البنية التحتية والإسكان والطاقة، تمتلك قدرة عملية على تنفيذ المشاريع بسرعة وكلفة أقل، إضافة إلى امتلاكها شبكة شركات إنشائية ولوجيستية قادرة على العمل في البيئات الخارجة من النزاعات".
ويقول، "في المقابل، تلعب الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، دوراً محورياً في توفير الاستثمار طويل الأمد، ودعم الاستقرار الاقتصادي عبر ضخ السيولة وإعادة تنشيط القطاعات الإنتاجية، هذا التعاون يتيح توزيعاً واضحاً للأدوار، وأنقرة تتولى الجانب التنفيذي والتقني، بينما تسهم الدول العربية في الدعم الاقتصادي والسياسي، وإعادة دمج سوريا في محيطها العربي والإقليمي، كما أن التنسيق العربي–التركي يخفف من حدة الاستقطاب الدولي، ويمنح عملية الإعمار طابعاً إقليمياً متوازناً، يراعي السيادة السورية ويعزز فرص الاستقرار المستدام، بعيداً من الارتهان لمحاور أحادية أو مصالح ضيقة". إعلان رسمي قريب
نائب رئيس المنتدى الاقتصادي السوري للتنمية، محمود الذرعاوي، يرى من جانبه أنه "بعد إزالة العقوبات، يمكن القول إن البيئة العامة باتت مهيأة أكثر من أي وقت مضى، وما تبقى هو استكمال تنظيم الإطار المؤسسي لإدارة الإعمار، وتحديث بعض التشريعات الاقتصادية والاستثمارية، وتعزيز الثقة المتبادلة بين الدولة والمستثمرين، واستعادة الجاهزية الكاملة للقطاع المصرفي بالتعاون مع المؤسسات الدولية، وهذه خطوات إجرائية طبيعية تمر بها كل الدول الخارجة من أزمات كبرى، ومن المرجح صدور إعلان رسمي خلال الفترة القريبة المقبلة يؤكد الانتقال من مرحلة التعافي إلى مرحلة إعادة الإعمار، والتنفيذ سيبدأ تدريجاً وبوتيرة متصاعدة، مع إعطاء الأولوية للمشاريع الخدمية والتنموية ذات الأثر السريع".
ويضيف الذرعاوي، أن "سوريا مرشحة لإطلاق مؤتمر دولي/ إقليمي لإعادة الإعمار، هذا المؤتمر سيكون منصة لتقديم الرؤية الوطنية وبناء الشراكات واستقطاب التمويل والخبرة، مع حضور فاعل من المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وستكون الدول العربية والإقليمية شريكاً أساساً في مرحلة الإعمار. الخلاصة هي أن سوريا تقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة، إذ إن العقوبات أزيلت بالكامل، والبيئة السياسية والإقليمية داعمة، والإرادة موجودة، والمرحلة المقبلة ليست سؤالَ هل يبدأ الإعمار؟ بل كيف نحسن إدارته ونسرع وتيرته، لأن بدء الإعمار لا يعني بالضرورة إعادة دورة الاقتصاد بل بداية لضخ الروح في الحياة بالنسبة إلى جزء كبير من السوريين". البعد الاجتماعي
في المقابل، يلفت بعض المحللين إلى أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تنتظر اكتمال كل الشروط المثالية، وأن البدء بمشاريع بنى تحتية أساسية قد يكون مدخلاً عملياً لتحريك الاقتصاد وخلق فرص عمل. ويقول رجل الأعمال السوري بدر الدين درويش، إن "إعادة الإعمار ليست حدثاً واحداً يعلن عنه في مؤتمر صحافي، بل مسار طويل ومتدرج، يبدأ عادة بمشاريع الكهرباء والمياه والطرق، ثم يتوسع لاحقاً إلى قطاعات الصناعة والإسكان".
لكن درويش يحذر في الوقت ذاته من أن غياب الشفافية قد يحول هذه المشاريع إلى أدوات لإعادة إنتاج الأزمات بدل معالجتها، وعلى الصعيد الاجتماعي، يحذر مراقبون من أن إعادة الإعمار إذا اقتصرت على البعد الاقتصادي، من دون مراعاة البعد الاجتماعي والإنساني، قد تعمق الانقسامات بدل رأبها، موضحين أن "إعادة الإعمار الناجحة يجب أن تشمل عودة اللاجئين، وإعادة دمج المجتمعات المحلية، وضمان عدالة توزيع المشاريع بين المناطق، وإلا فإن الشعور بالتهميش قد يتحول إلى عامل عدم استقرار جديد". الرياض.. المحطة الفاصلة
المستشار الإعلامي السعودي الدكتور محمد بن عبدالله السلامة، يقول في تصريح خاص، إنه "في ضوء التحولات الكبرى التي شهدتها سوريا بعد سقوط النظام ورفع العقوبات، يبرز الدور الإيجابي للسعودية كأحد العوامل المحورية في دعم مسار التعافي وإعادة الإعمار، عبر مقاربة شاملة لم تقتصر على الجانب السياسي، بل شملت الأبعاد الدبلوماسية والاقتصادية والإنسانية".
ويمضي في حديثه، "لعبت السعودية دوراً فاعلاً في التمهيد لرفع العقوبات من خلال تحركات دبلوماسية ووساطات جمعت أطرافاً إقليمية ودولية، مؤكدة أن إنهاء العزلة الاقتصادية شرط أساس لعودة اللاجئين واستقرار البلاد، وعلى الصعيد العملي، عززت السعودية حضورها عبر توقيع اتفاقات استثمارية واسعة مع دمشق شملت قطاعات البنية التحتية والطاقة والصناعة والاتصالات، بما يعكس ثقة واضحة بقدرة الاقتصاد السوري على التعافي، ويرسل إشارات طمأنة للمستثمرين العرب والدوليين، كما امتد دورها إلى دعم القطاع العام السوري بالتعاون مع دول خليجية أخرى، في محاولة لتخفيف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة انتقالية حساسة".
ويوضح الباحث السعودي أنه "إلى جانب ذلك، برز الدور الإنساني المبكر لمركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، الذي سارع فور سقوط النظام إلى تسيير جسر جوي وبري إلى سوريا لتقديم المساعدات الإغاثية والطبية والغذائية، مما أسهم في احتواء التداعيات الإنسانية العاجلة، وكرس صورة السعودية كشريك داعم للاستقرار لا يقتصر دوره على التمويل، بل يشمل بناء الثقة وتهيئة الأرضية لمرحلة إعادة الإعمار، وفي المحصلة، يعكس هذا الدور السعودي رؤية تتجاوز العلاقات الثنائية، وتسعى إلى دعم استقرار سوريا وإعادة دمجها عربياً وإقليمياً".
بالنتيجة، يبدو أن رفع العقوبات عن سوريا فتح الباب نظرياً أمام مرحلة جديدة، لكنه لم يلغِ الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالأمن والسياسة والقانون والاقتصاد، فالإعلان الرسمي عن بدء إعادة الإعمار لا يبدو مسألة توقيت فحسب، بل استكمال شروط متداخلة، تتطلب توافقاً داخلياً، وضمانات دولية، وإصلاحات مؤسساتية عميقة، وبين من يرى أن الوقت حان للبدء ولو بخطوات محدودة، ومن يحذر من استعجال قد تكون كلفته باهظة، تبقى سوريا أمام مفترق طرق حاسم، ستحدد خياراته شكل الاقتصاد والدولة لعقود مقبلة.
اندبندنت عربية
|