يمثل توقيع مجموعة موانئ أبو ظبي اتفاقية استحواذ على 20 في المئة من محطّة حاويات اللاذقية الدولية، بالتعاون مع الشركة الفرنسية CMA CGM، شكلاً من الخصخصة الوظيفية أو نقل الوظيفة التشغيلية إلى شركة أجنبية عبر امتياز طويل الأجل.
ومع أن شكل الاتفاقية الذي جاء وفق نموذج "BOT"، الأمر الذي لا يفقد الدولة ملكيتها للمرفأ، إلا أن الاتفاقية تطرح تساؤلات حول السيادة التشغيلية حيث يدار أهم مرفأ للبلاد تحت التأثير المزدوج للإمارات وفرنسا، فيما تكتفي الحكومة بلعب دور مالك للأرض وجابي الرسوم.
توسيع نطاق التعاون
وكانت مجموعة موانئ أبو ظبي أعلنت عن توقيع اتفاقية مساهمين مع مجموعة "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، الرائدة في الشحن والخدمات اللوجستية، للاستحواذ على حصة أقلية بنسبة 20% في شركة "محطة حاويات اللاذقية الدولية" في سوريا، مقابل 81 مليون درهم إماراتي (نحو 22 مليون دولار).
وقالت المجموعة في بيان، إن هذه الخطوة تأتي "لتوسيع نطاق التعاون الاستراتيجي" مع مجموعة "سي إم إيه سي جي إم"، مشيرة إلى أن الاتفاقية وُقعت في أبو ظبي بحضور الرئيس التنفيذي لمجموعة موانئ أبو ظبي، الكابتن محمد جمعة الشامسي، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمجموعة الفرنسية، رودولف سعادة.
وأكد الشامسي أن الاتفاقية "تجسد زخم النمو الذي تشهده أعمال المجموعة وتعكس أواصر التعاون الدولي مع شركائنا الرئيسيين"، مضيفاً أنه "سنواصل العمل على بناء شراكات قوية مع كيانات عالمية رائدة مثل مجموعة سي إم إيه سي جي إم، بما يحقق المصالح المشتركة ويوسع نطاق عملياتنا التشغيلية على الصعيد الدولي".
وذكرت مجموعة موانئ أبو ظبي في بيانها أن الصفقة الجديدة "ستسهم في تحديث وتوسعة مرافق المحطة، وتعزيز موقع اللاذقية كبوابة تجارية رئيسية لسوريا وشرق البحر المتوسط"، مشيرة إلى أن التعاون مع المجموعة الفرنسية سيعمل على "دعم نمو التجارة الإقليمية وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة".
انتقال لجزء من السيادة
يقرأ الباحث الاقتصادي محمد علبي هذه الاتفاقية كانتقال لجزء مهم من السيادة التشغيلية إلى المستثمرين الأجانب، حتى لو بقيت السيادة القانونية/الملكية للدولة.
ويضيف خلال حديث لموقع تلفزيون سوريا أن المسألة لا تتعلق بالملكية فقط، بل بمن يملك القدرة العملية على اتخاذ قرارات: من يرسو، متى، وبأي سعر، وفي حالة مرفأ يشكل أكثر من 95 في المئة من حركة الحاويات في البلاد، فإن منح السيطرة التشغيلية لمستثمرين أجانب يجعل ميزان القوة في اتخاذ القرارات، من التسعير إلى أولويات الشحن والاستثمار، مائلاً بوضوح خارج الإطار الوطني. وهذا يُحمّل الاتفاقية بعداً سيادياً لا يمكن تجاهله، خصوصاً في بلد محدود الخيارات اللوجستية ويعاني هشاشة اقتصادية وسياسية.
وفي ظل هذه الاتفاقية، يعتبر علبي الحكومة مجرّد مالك رسمي لأهم منفذ تجاري للبلد بينما يدار هذا المنفذ فعلياً تحت التأثير المزدوج للإمارات وفرنسا، فيما تكتفي الحكومة بلعب دور مالك للأرض وجابي رسوم امتياز ورُسُوّ.
في المقابل، يرى علبي أن هذا لا يعني بالضرورة تفريطاً كاملاً بالسيادة، لكنه يعني أن ميزان القوة التفاوضي والتنفيذي في إدارة المنفذ يميل بقوة إلى الشركاء الأجانب.
ويلفت إلى أنه يمكن للحكومة أن تتجنب هذا السيناريو فقط إذا امتلكت أدوات تنظيم قوية، وحقوق حوكمة واضحة داخل الشركة المشغّلة، وآليات فعّالة لضبط التعرفة، وأولوية السلع الوطنية، وشروط المنافسة. من دون ذلك، يصبح التأثير الخارجي على الميناء مسألة بنيوية لا ظرفية.
نموذج BOT هو الأفضل
من جانبه يختلف الكاتب والخبير الاقتصادي سمير طويل مع القراءة التي أوردها علبي، مشيراً خلال حديث لموقع تلفزيون سوريا إلى أن هذه الاتفاقية لن تحدث أي مشكلة تخص السيادة التشغيلية، نظراً لأن العمل يتم بنظام التشغيل وفق نموذج "BOT" الذي يعني (البناء - التشغيل – النقل)، وهو مختلف عن نظام "BOO" الذي يعني (البناء – التملك – التشغيل)، حيث يوجد فارق جوهري بين النظامين يتمثل بأن الأول يمنح الشركات امتيازاً لإدارة المشروع لفترة محددة، ثم تعود ملكيته إلى الدولة، في حين يمنح النموذج الثاني المستثمر ملكية المشروع بشكل دائم.
ويضيف طويل أن وجود شركات أجنبية مشغلة للموانئ السورية سواء مجموعة موانئ أبو ظبي أو حتى الشركة الفرنسية CMA CGM هو أمر ضروري لتشغيل المرفأ، وقبل العام 2011 كانت هذه الشركة الفرنسية موجودة مع شركة فلبينية تدير ميناء طرطوس التجاري، معتبراً أن وجود شركات أجنبية متخصصة في تشغيل وإدارة هذه المشاريع بالتنسيق مع الحكومة السورية التي تعد شريكاً بالأرباح، أمراً طبيعياً.
ويوضح طويل أنه بالنسبة لهذه الاتفاقية، فإن الحكومة تبقى المالك الرسمي بينما العقد الموقع هو عقد تشغيلي فقط، فعلى سبيل المثال كانت إدارة فندق الفورسيزن وسط دمشق مملوكة نتيجة عقد تشغيلي لشركة "المملكة القابضة" السعودية مع حصة من الأرباح لوزارة السياحة، لكن في النهاية تؤول الملكية للدولة، وبالتالي فلا توجد انعكاسات سلبية على ملكية الدولة للموانئ.
ويلفت طويل إلى هذه العقود تتم وفق مذكرات تفاهم وبنود واضحة متفق عليها بين الطرفين، وفي حال أخل أحد الطرفين بالشروط فسوف يتم اللجوء إلى المحاكم الدولية أو التحكيم داخل سوريا، ملمحاً إلى عدم تسبب مثل هذه العقود بمشكلات تتعلق بالتشغيل بل على العكس سوف تنشط الاقتصاد وحركة الترانزيت وعمليات الاستيراد والتصدير.
خصخصة وظيفية
إقدام الحكومة على توقيع اتفاقيات مع الشركات الأجنبية يثير علامات استفهام حول مدى اعتبار هذه العقود جنوحاً من قبل الحكومة نحو خصخصة القطاع العام.
إجابة على هذا السؤال، يوضح محمد علبي أن ما يحدث في اللاذقية ليس خصخصة بالمعنى التقليدي، إذ لم تُبع أصول الميناء، لكنه يمثل شكلاً من الخصخصة الوظيفية أو نقل الوظيفة التشغيلية إلى شركة أجنبية عبر امتياز طويل الأجل.
ويضيف بأن هذا النموذج غالباً ما تتبناه الدول الخارجة من أزمات، حين تكون حاجتها إلى الاستثمارات والتكنولوجيا أكبر من قدرة القطاع العام.
غير أن هذا التوجّه يحمل تداعيات متعددة: فمن جهة، يسهم في تحسين الكفاءة التشغيلية، وخفض زمن انتظار السفن، وجذب خطوط ملاحية جديدة، ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني.
لكنه من جهة أخرى يعيد توزيع الريع (المينائي في هذه الحالة) بحيث تنتقل حصة معتبرة منه إلى مستثمرين أجانب، ويضعف قدرة الدولة لاحقاً على تعديل شروط الامتياز، ويجعل تشغيل مرفق استراتيجي حساساً للتقلّبات السياسية والعلاقات الدولية.
وتأسيساً على ما سبق، يؤكد علبي أن الاتفاقية لا تعكس خصخصة شاملة للقطاع العام، لكنها تفتح الباب أمام نمط جديد لإدارة الأصول الاستراتيجية يعتمد على الشراكات الأجنبية، بكل ما يحمله من فرص تحديث ومخاطر تبعية.
ويتابع بأن التحدي في المرحلة المقبلة سيكون في قدرة الدولة على بناء إطار تنظيمي يضمن أن تبقى هذه الاستثمارات ضمن حدود المصلحة الوطنية ويضمن للدولة شروطاً أفضل بالمستقبل، وذلك يمرُّ حتماً عبر إلزام هؤلاء المستثمرين بتدريب موظفين محليين، ووضع بنود تكفل للدولة حق مراجعة العقود حسب الحالة الاقتصادية للمؤسسة المُراد خصخصتها وظيفياً، بحيث لا تتحول الحاجة اليوم إلى انتقال بطيء وغير معلن للسيادة الاقتصادية خارج البلاد.
المرفأ بالأرقام
وتعتبر محطة حاويات اللاذقية الدولية البوابة البحرية التجارية الأساسية لسوريا، إذ تتولى مناولة أكثر من 95% من بضائع الحاويات في البلاد، خاصة في مجالات المنتجات الزراعية والصناعية.
وتُشغل المحطة حالياً من قبل شركة "سي إم إيه تيرمينالز" التابعة للمجموعة الفرنسية، التي تديرها منذ عام 2009 بموجب اتفاقية امتياز معدلة تم تمديدها لمدة 30 عاماً في أيار.
وتبلغ القدرة الاستيعابية الحالية لمحطة حاويات اللاذقية نحو 250 ألف حاوية نمطية، مع خطط لرفع الطاقة التشغيلية إلى 625 ألف حاوية بنهاية عام 2026، من خلال مشاريع تطوير للبنية التحتية والأنظمة الرقمية ورفع الكفاءة التشغيلية.