سيرياستيبس :
بعد عام على سقوط النظام البائد، تُجمع الفعاليات التجارية في العاصمة السورية على أن اعتماد نهج "الاقتصاد الحر" هو الأنسب للاقتصاد السوري، مطالبين بتكريس هذا النهج والاعتماد عليه لبناء اقتصاد قوي ومتجانس وقادر على جذب الاستثمارات وضمان حرية الأعمال وتنافسيتها.
خلال ندوة أقيمت في مقر غرفة تجارة دمشق حول التوجهات العامة في الاقتصاد السوري بمناسبة مرور عام على سقوط النظام البائد، دعت فعاليات اقتصادية وتجارية إلى تكريس اقتصاد السوق الحر التنافسي كهوية للاقتصاد السوري بديلاً عن الهوية "الاشتراكية"، لكنهم أكدوا في الوقت نفسه، على ضرورة الاعتماد على الذات وعلى
الموارد البشرية الوطنية للنهوض بالبلاد، والسعي لإعادة القيمة للعملة الوطنية، وإعادة النظر بأسعار الكهرباء، وتخفيف الأعباء عن المواطنين، وسد الفجوة بين الدخل والأسعار.
اقتصاد السوق الحر ضرورة للنهوض
وتقود غرفة تجارة دمشق سياسة حوارية تكاد لا تنقطع بينها وبين المتخصصين الاقتصاديين والمؤسسات التعليمية في محاولة لتقديم رؤيا (عملية – علمية) لطروحاتها، خصوصاً أن النظام السابق دأب على فرض سياساته الاقتصادية على مجتمع الأعمال من دون إتاحة الفرصة ليكون شريكاً في صنع القرار.
وتتطلع غرفة تجارة دمشق وغيرها من الفعاليات الاقتصادية لتكون شريكاً في صنع القرار الاقتصادي، لضمان نجاح الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر من دون أية اختراقات شاذة وغير مقبولة في آليات العمل الاقتصادي.
وبخلاف الصناعيين والمنتجين الذين يرون أن قرار الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر كان متسرعاً، إذ يرون أن التحول إليه كان يجب أن يحصل بصورة تدريجية بعد تقوية الصناعة والإنتاج قبل اعتماده بصورة مطلقة، فإن غرفة تجارة دمشق وغيرها من الغرف والفعاليات التجارية والاقتصادية في البلاد تبدو مؤيدة وبقوة لنهج "اقتصاد السوق الحر".
وهو ما تظهره التصريحات الصادرة عن أعضاء مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق منذ سقوط النظام البائد، إذ يدعمون بقوة التحول نحو اقتصاد السوق الحر، باعتباره ضرورة للنهوض بالاقتصاد الوطني، وتجاوز النموذج المركزي القديم.
وكان رئيس غرفة تجارة دمشق عصام غريواتي، خلال جلسة اقتصادية أقامتها أخيراً منظمة "مواطنون سوريون" الأميركية، شدّد على أهمية الحرية الاقتصادية التي تحققت بعد سقوط النظام البائد، معتبراً أنها تشكل حجر الأساس لمرحلة جديدة قوامها اقتصاد السوق الحر، وبيئة تنافسية سليمة، وتشريعات محفّزة للاستثمار والإنتاج، مؤكداً أن هذه المرحلة تشكّل فرصة تاريخية لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس حديثة، بما يخدم مصلحة سوريا ومستقبل أجيالها القادمة.
تجميد القوانين
تجار دمشقيون أكدوا لـ"اندبندنت عربية" أن الحكم على تجربة "الاقتصاد الحر التنافسي" ما زال مبكراً، خصوصاً أن المحركات الاقتصادية تحتاج إلى فترة أطول لظهور نتائج قابلة للقياس والتقييم، وطالبوا بتجميد بعض القوانين التي لا تتوافق مع تحرير السوق كقانون التجارة الداخلية والتسعير المركزي التي كانت معتمدة في عهد النظام السابق، بعد أن تسببت في إعاقة العمل التجاري وحتى الصناعي بحجة حماية المستهلك.
وأكد طلال سعد الدين تاجر أقمشة، أن "النهج الاقتصادي القائم على حرية التنافس يحتاج إلى استكمال بناء السياسات الاقتصادية والتجارية والمالية والضريبية والنقدية وحتى الاجتماعية"، متوقعاً أن يقر مجلس الشعب المنتظر تشريعات وقوانين تتناسب مع اقتصاد السوق الحر.
وأشار إلى أن هناك قوانين عمرها أكثر من 80 عاماً، ما زالت تحكم الاقتصاد ويجب تعديلها سريعاً لعدم توافقها مع اقتصاد السوق.
وقال لـ"اندبندنت عربية"، إنه "من خلال مراقبتنا للسوق نلاحظ أن أنظمة النقد والمصارف وتداول القطع الأجنبي والتجارة الخارجية، نجحت في تطبيق آليات العرض والطلب"، مستدركاً "لكن لا بد من اتخاذ المزيد من الإجراءات".
إعادة صياغة القانون المالي للدولة
وكان لافتاً ما ذهب إليه عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق علي كنعان، خلال محاضرة له في غرفة تجارة دمشق حول توجهات الاقتصاد السوري، عندما دعا إلى ضرورة اعتماد اقتصاد السوق الحر في الدستور السوري، حتى لا يتعدى أحد على حرية الاقتصاد، معتبراً أن اقتصاد السوق الحر كان ناجحاً في سوريا في فترة الخمسينيات من القرن الماضي.
وأكد على رغبة السوريين باقتصاد حر وليس مقيداً، لافتاً الى ضرورة إعادة صياغة القانون المالي للدولة لكونه قانوناً ألمانياً اشتراكياً استمر في خنق الدولة منذ عام 1967 وباتت آلياته المالية قديمة، موضحاً أن تحقيق النجاح في العمل الاقتصادي يتطلب خطوات سريعة لرفع مستوى الأجور، التي لا تشكل سوى نسبة 15 في المئة من موازنة الدولة، في حين تصل نسبتها إلى 60 في المئة في بلدان العالم.
وتابع أنه "لتعزيز نجاح اقتصاد السوق الحر، لا بد من تشكيل مجلس مداولة، من عمال وتجار وحكومة، يشارك في إصدار القرارات الاقتصادية".
عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، كشف أن الثروات الباطنية الموجودة في سوريا يمكن أن تُشكل داعماً قوياً لتنفيذ السياسات الاقتصادية، مشيراً في هذا السياق إلى أنه "لم يدخل ثمن برميل نفط واحد لخزينة الدولة في عهد النظام البائد".
وأوضح أن الخبراء المختصون والشركات، قدروا الإنتاج بمليون ونصف المليون برميل يومياً، والحكومة كانت تدعي إنتاج 400 ألف برميل، كانت أثمانها تذهب لبنوك خارجية.
الاقتصاد السوري بين الانكماش والنهوض
وأكد متخصصون أن سوريا التي تحولت بلا مقدمات إلى اقتصاد السوق الحر بحاجة ماسة إلى استراتيجية انتقالية لخمس سنوات في الأقل تركز فيها على عوامل النهوض الحقيقية، مشيرين إلى أن مستقبل سوريا أمام طريقين، الأول يقود إلى الانكماش، إذا لم يكن هناك وضوح في الرؤيا وتركيز على الكفاءات، قد ينكمش الاقتصاد 2 في المئة في العام المقبل إلى جانب نزوح المزيد من السكان وفقر يتجاوز 92 في المئة، بينما الطريق الثاني يقود إلى النهوض في حال نفذت استراتيجية شاملة، فيمكن تحقيق نمو من 4 إلى 6 في المئة مع اكتفاء غذائي أعلى بنسبة 20 في المئة.
اقتصاد السوق الحر مخيف
وقد تكون الحكومة السورية نجحت في إعطاء هوية للاقتصاد السوري، لكن ما تحتاجه سوريا، ليس الخوض في انفتاح أعمى، بل تبني سياسات تحافظ على دعم الدولة الاستراتيجي لإعادة بناء القدرات الإنتاجية والصناعية، وعلى رغم التأييد الذي يبديه قطاع الأعمال وخصوصاً التجار لاقتصاد السوق الحر، فلا بد من وضع خطة استراتيجية تراعي حياة السوريين ومستقبلهم ورفع مستوى معيشتهم، وهو ما يؤكده عضو غرفة تجارة دمشق محمد حلاق.
إذ يرى الحلاق أن اقتصاد السوق الحر مناسب لسوريا كي تستطيع البدء بإعادة الإعمار، مستدركاً "لكن الانتقال يجب أن يكون تدريجياً ومنظماً بضوابط صارمة، ومدعوماً بقوانين مالية وضريبية وجمركية واضحة".
الحلاق وصف اقتصاد السوق الحر بـ"المخيف"، إذ يحتاج إلى أشخاص لديهم الخبرة الكافية بألياته وقواعده، وإلى تصحيح مسارات العمل عبر بناء بيئة تشريعية متكاملة، لافتاً إلى أن البرجوازية السورية تشكل أساس انتعاش الاقتصاد السوري ويجب تقويتها وجعلها طرفاً أساسياً في اتخاذ القرارات على اختلافها، بينما ما زالت تجربتها في الاقتصاد الحر "كخطوة أولى على طريق طويل"، إذ تمضي دمشق نحو المستقبل، بعد أن بقيت لسنوات طويلة عاجزة عن تحديد هوية اقتصادها، فمنذ أن اعتمدت حكومة ناجي عطري وهي آخر حكومات ما قبل الحرب اقتصاد السوق الاجتماعي، والاقتصاد السوري يترنح بين هوية اشتراكية عجزت عن تحقيق مزاعمها بصون قضايا العمال والفلاحين وبين "هوية مائعة" لا توصيف لها، أما على أرض الواقع فقد أصبح 90 في المئة من الشعب فقراء، لمصلحة تمركز الثروات في يد قلة فاسدة مدعومة من السلطة وفقاً للحلاق.
اندبندنت عربية
