أطفال "تيك توك"... شهرة مشروطة بسلب البراءة
28/12/2025
سيرياستيبس
تيا ومجذوب وعلي درويش وماريا كاتاليا وكيان، وغيرهم كثر، هم من الأطفال الذين لا تشبه حياتهم تلك التي لغيرهم ممن هم في هذه المرحلة العمرية. فهؤلاء هم من المشاهير على منصات التواصل الاجتماعي الذين أصبحت الشهرة، ومعها العالم الرقمي، محور حياتهم فأبعدتهم عن كل ما يرافق الطفولة من براءة وحرية ومرح. فإذا كان للشهرة ثمن يدفعه الراشد الذي يبلغ هذه المرحلة، فكيف بالأحرى من لا يزال في مرحلة الطفولة التي يجب أن يغلب عليها اللعب والمتعة والبراءة؟ تلك الشهرة قد أعطتهم كثيراً ربما، إلا أنها سلبتهم ما هو أهم بكثير مما استطاعوا أن يحققوه بفضلها.
عندما أصبح العالم الرقمي محور الحياة
في أيامنا هذه أصبح العالم الرقمي مسيطراً على جوانب عديدة من حياتنا، لكن بالنسبة إلى الأطفال بصورة خاصة، أصبح محور الحياة. بات يحتل جزءاً كبيراً من حياتهم، مما جعل آثاره كبيرة، وهذا ما دفع دولاً عديدة إلى اتخاذ إجراءات في مواجهة ما يعتبرونه آفة في المجتمع اليوم. وقد يكون القرار الذي اتخذته أستراليا أخيراً بمنع الأطفال الذي هم دون سن الـ16 سنة على إنشاء حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي خير دليل على ما لهذا العالم من آثار خطرة على الأطفال. ويبدو الوضع أكثر خطورة بعد على الأطفال الذين يغوصون أكثر في هذا العالم ليحققوا الشهرة فيه عبر نشر فيديوهات ومحتوى معين على منصات معينة مثل "تيك توك"، و"يوتيوب"، فيتبعهم الآلاف وربما الملايين بعدها ويبدأون بتحقيق الأرباح إلى جانب الشهرة. قد يكونون أطفالاً صغاراً أو يمكن أن يكونوا من المراهقين الذين يجدون في العالم الرقمي مصدر دخل ومجالاً لتحقيق الشهرة ومساحة لنيل الإعجابات وكسب المتابعين. ومن الممكن أن يكون الأهل المشجعين على ذلك في مرحلة أولى، لكن في مراحل لاحقة يتعطش هؤلاء الأطفال للشهرة والمتابعة والأرباح وتسيطر كلها على حياتهم فيخسرون البراءة والطفولة وأكثر بعد. وتبدو شهرة الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي مسألة جدلية، فإذا بهذا النوع من المحتوى يجذب كثراً ممن يستلطفون هؤلاء الأطفال، إلا أن آخرين ينفرون من فكرة إدخال أطفال في هذا العالم لما يتركه ذلك من آثار عليهم وعلى براءتهم.
في السياق تأسف الاختصاصية في المعالجة النفسية روى حيدر لما بلغت إليه الأمور في تعريض الأطفال بصورة متواصلة لوسائل التواصل الاجتماعي وآثارها بالدرجة الأولى، "وقد أظهرت الدراسات أن وقت يمضيه الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي يرتبط إلى حد كبير بما يمكن أن يتعرضوا له لاحقاً من اكتئاب، أو قلق مرضي، أو غيرها من الاضطرابات النفسية. وتزيد منصات التواصل الاجتماعي بأنواعها خطر الإصابة بهذه الأمراض، وإن كانت لهذه الوسائل فوائد معينة، إذ يمضي الأطفال أوقاتاً طويلة خصوصاً ليلاً في متابعتها، ما يسبب لهم قلة النوم ويؤثر في العلاقات الاجتماعية، والنتائج المدرسية وغيرها. يضاف إلى ذلك أن التعرض لها يشجع الطفل على مقارنة نفسه مع الآخر، ويعزز الإحساس بالغيرة مما يملكه الآخر، بالاستناد إلى ما يظهر على منصات التواصل الاجتماعي، فيبدو أن الآخر على هذه الوسائل يتمتع بحياة مثالية، ويتمنى الطفل لو يملكها ما يسبب قلة الثقة بالنفس لديه".
في ضريبة الشهرة
أما الأطفال الذين يحققون الشهرة على منصات التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك" و"يوتيوب" فيبدو وضعهم مختلفاً. وتشير حيدر إلى أن دماغ الإنسان يبلغ ذروة النمو في عمر 25 سنة، أما قبل هذه السن فيكون الجزء المسؤول عن ضبط العواطف والمشاعر في طور النمو، "ما يجعل الإنسان في حال عدم اتزان عاطفي وفي مواجهة أزمة هوية، لذلك فإن تعرضه للشهرة بهذه المستويات في سن مبكرة يمكن أن يؤثر في النمو الصحي لدماغه، فما يسهم في نمو دماغ الطفل في مراحل مبكرة عوامل معينة مثل التواصل مع الآخرين، والحرية باللعب والاستكشاف، وغيرها من الأمور التي تساعده على التحكم بنفسه، وبمشاعره، وبقدرته على اتخاذ القرارات المناسبة. في الوقت نفسه، تعرض الشهرة في سن مبكرة الطفل لخطر فقدان زمام الأمور في هذا المجال، وكأنه لا يعود يعرف الحدود. في مثل هذه الظروف، يمكن أن يتفوق الآخر على الطفل ويصبح تحت رحمته وسيطرته على منصات التواصل الاجتماعي بما أن المجال يكون مفتوحاً للتعليقات وتكثر فيها تلك السلبية والمؤذية. هذا ما يجعل المتابع يتفوق على الطفل الذي يبحث عن الشهرة، فيسيطر عليه ويزيد تأثيره عليه بما يضعه من تعليقات، وإعجابات، ومتابعة تترك أثراً كبيراً فيه أكثر بكثير مما تفعل بأي شخص آخر".
تضيف الاختصاصية في المعالجة النفسية "بمجرد تحقيق الشهرة، تتغير المعايير، وربما المبادئ أحياناً، فتختلف لدى الطفل الذي يعيش تجربة من هذا النوع عن تلك التي لدى طفل آخر في ظروف مختلفة، حتى إن نظرته إلى الأمور تختلف في هذه الحالة، ومعها مفهوم الحب لديه، فيربطه بالإعجابات والمتابعة ويعتبر أنه يتطلب كثيراً من الجهد لكسبه، لأنه يأتيه من الناس ومن أعداد معينة من المعجبين، فيرتبط مفهوم الحب لديه عندها بالمنحى المادي، وبسبب هذا الواقع يمكن أن يخسر الطفل ما لديه من جانب صادق وحقيقي في شخصيته، وما يرتبط بالمشاعر والأحاسيس، لأن الأمور تتخذ بالنسبة إليه منحى مادياً". وتتابع حيدر "من المؤسف أن الجيل الجديد بات يشعر بأن بذل الجهد، والكفاءة، والعمل، والتعليم ليست معايير مطلوبة في أيامنا هذه لكسب المال، بوجود مشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي يحققون أرباحاً خيالية من دون جهد يذكر وبأبسط الطرق الممكنة عبر تصوير فيديوهات معينة". وما توضحه حيدر أن ما يبدو سهلاً إلى هذا الحد في جني الأرباح، ليس في الواقع بهذه السهولة كما يبدو للأطفال والمراهقين والشباب عامة، لأن هذا النجاح يسرق في الواقع شيئاً من الذات، "فالطفل أو الشاب الذي يحقق الشهرة على (تيك توك)، أو غيرها من المنصات لا يمكن أن يطل بصورته الحقيقية، بل يحتاج لأن تكون إطلالاته ملائمة لما يطلبه المتابعون، وما يريدونه منه، وما يحبونه فيه. لذلك، قد لا يبدو الأثر واضحاً في الفترة الأولى، إنما في المدى البعيد، وعند بلوغ الطفل مرحلة الرشد، من المؤكد أن ذلك يترك أثراً كبيراً فيه. لذلك، يبرز دور الأهل والمدارس في نشر الوعي حول أخطار هذا الواقع الذي يؤثر في جيل بأكمله، ويقوده إلى طرق تضلله، فالمطلوب من الأهل مراقبة ما يشاهده أطفالهم من محتوى وفيديوهات ومن يتابعونهم من أشخاص لأنهم قد يضللونهم في الحياة، ويؤثرون فيهم إلى حد كبير. أيضاً، لا بد من التحقق من مدى تأثرهم بما يشاهدونه والتحاور معهم، لأن الخطر موجود وعالم التواصل الاجتماعي بات مسيطراً على حياتهم. هذا ما يزيد من المسؤوليات على الأهل والمدارس في وضع المثال الجيد أمامهم وإرشادهم حول الطرق الصحيحة بعيداً من هذا العالم البعيد من الصدق والصدقية والواقع".
شهرة تسرق الطفولة
يرفض المتخصص في التحول الرقمي فيليب أبو زيد، بصورة تامة، فكرة وجود الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي، خصوصاً إذا كانوا دون سن الـ13 سنة، "عادةً، تتحقق شهرة الأطفال على تيك توك نتيجة امتلاكهم عناصر جاذبية للمتابعين، مثل العفوية، والبراءة، والحركات التي يستغلها الأهل أو من يدير الحسابات الخاصة بهم. وكون المنصة تعتمد على الخوارزميات التي تروج للمحتوى الأكثر تفاعلاً، غالباً ما يحقق الأطفال نسب مشاهدة مرتفعة بسبب بساطة المحتوى وسرعة انتشاره. بطبيعة الحال، يحقق أطفال معينون الشهرة والنجاح من خلال المحتوى الذي ينشر لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، دون غيرهم من الأطفال. ويعود ذلك إلى عناصر عديدة يمكن أن تؤدي دوراً في هذا النجاح. ومن أبرز العناصر التي تسهم في نجاح محتوى الأطفال:
-طبيعتهم المحببة فكثر يحبون مشاهدة الأطفال لأسباب عاطفية.
-العائلة المنتجة إذ إن بعض الأهالي يبنون محتوى كاملاً يتمحور حول الطفل، ويخططون للتفاصيل كافة المتعلقة بحساباته.
-الترندات، إذ يتبع الأطفال التحديات والرقصات والمقاطع الرائجة.
-الإخراج الذي يعتمد على التصوير الممتع، والإضاءة الجيدة، والموسيقى الجذابة.
-التفاعل المستمر مع النشر اليومي واستغلال أحداث حياتية بسيطة.
أما الربح المادي الذي يحققه الأطفال من هذه الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً (تيك توك)، فيأتي من مصادر عدة مثل الهدايا في البث المباشر، والمحتوى الإعلاني المدفوع من الشركات، والرعايات، واستعراض المنتجات، إضافة إلى برنامج الإبداع في الدول التي يتوافر فيها، والروابط التسويقية".
الصين تنفي تخزين بيانات لمستخدمين أوروبيين لـ"تيك توك"
لكن المشكلة الكبرى، يتابع أبو زيد، "أن هذا الربح يأتي على حساب نفسية الطفل، وخصوصيته، وإحساسه بقيمته، إذ تسبب الشهرة المبكرة الأذى للنمو النفسي، وتضع الطفل تحت ضغط اجتماعي هائل لا يناسب عمره، إضافة إلى أن الأهل قد يستفيدون مادياً على حساب حق الطفل في الخصوصية والراحة، لهذا السبب، لا يجوز أن يكون الأطفال على هذه المنصات مطلقاً، لا كصناع محتوى ولا كمصدر ربح لأي جهة".
وعلى رغم رفضه الكامل مشاركة الأطفال في إنشاء محتوى على منصات التواصل، يشير إلى أنه غالباً ما يعتمد المحتوى على فيديوهات تبدو "لطيفة" أو "مرحة"، لكن خلفها استغلال غير مباشر لحضور الطفل. وتشمل أشهر أنواع الفيديوهات، والرقصات، والتحديات، ويقوم الطفل بتقليد رقصات منتشرة أو ترندات موسيقية، وغالباً يكون الأهل من يدربونه أو يجبرونه على الأداء أمام الكاميرا. وأيضاً، هناك المقالب التي يصور الطفل فيها، وهو يتعرض لموقف مفاجئ أو محرج، مما قد يضحك الجمهور، لكنه موقف قد يسبب للطفل خوفاً أو قلقاً أو مشاعر سلبية لا تؤخذ بالاعتبار. كذلك، هناك المحتوى اليومي، ويظهر فيه الطفل وهو يتناول الطعام، ويذهب للمدرسة، أو يعيش تفاصيل حياته، "هذا النوع يشكل خطراً شديداً لأنه يكشف عن خصوصية الطفل بالكامل: المنزل، الروتين، والعلاقة مع الأهل، وحتى المدرسة. أما في المحتوى الكوميدي فيكتب الأهل نصوصاً للطفل أو يدربونه على تمثيل مواقف تبدو مضحكة. وثمة فيديوهات للأطفال تعتمد على استعراض المنتجات وتستخدم فيها براءة الطفل لجذب انتباه الجمهور إلى منتج معين، وهو أسوأ أنواع الاستغلال لأن الطفل يتحول إلى وسيلة دعائية. وفي المحتوى العاطفي، يتم الاعتماد على بكاء طفل، وانزعاجه، وتفاعله مع موقف مؤلم، وهو من الأنواع الخطرة أيضاً لأن الأهل يبحثون عن أكبر قدر من التعاطف لجذب المشاهدات".
لكن في الوقت نفسه ثمة أذى مشترك تحمله هذه الأنواع من الفيديوهات كافة، فهي تؤدي كلها إلى تدمير خصوصية الطفل، وتحوله إلى "مادة محتوى"، مع ما لذلك من تأثير في شعوره بقيمته وهويته، فحتى لو بدا المحتوى بريئاً، هو يضع الطفل في دائرة التقويم العام، ويعرضه للتنمر الإلكتروني، ولإحساس غير صحي بأن قيمته تأتي من الأضواء، لهذا السبب، يشدد أبو زيد على ضرورة منع مشاركة الأطفال في صناعة محتوى عام، خصوصاً حين يكون هدفه الشهرة أو الربح المادي.
مصدر دخل غير ثابت
أما الاعتماد على الشهرة الرقمية كمصدر دخل أساس طويل الأمد، كما يفعل البعض، أو كما يتصور البعض عالم الشهرة على وسائل التواصل الاجتماعي، فليس خياراً مستقراً ولا مضموناً، بحسب أبو زيد، سواء للكبار أو الأطفال، "ومن الخطر أن يقدم للأطفال أو المراهقين كبديل عن التعليم التقليدي أو المهارات الحقيقية، فوسائل التواصل الاجتماعي بيئة متقلبة، ومنصاتها تتغير باستمرار، والخوارزميات لا تخضع لأي قواعد ثابتة، الشهرة نفسها ليست مهارة مهنية يمكن تطويرها، بل هي حال موقتة مرتبطة بالترند والظهور، فآلاف الأشخاص يحققون شهرة سريعة ثم يختفون خلال أشهر، لذلك فإن بناء مستقبل أو دخل ثابت على شيء متقلب كهذا يعد مخاطرة كبيرة".
وبالنسبة إلى الأطفال يكون تأثير الشهرة أخطر بعد لأنهم لا يملكون القدرة النفسية على التعامل مع الضغط، والنقد، والمقارنة بالآخرين، أو التقلبات المفاجئة في عدد المتابعين، وقد يخلق الاعتماد على الشهرة لديهم وهماً بأن النجاح لا يحتاج إلى دراسة أو جهد، مما يعرضهم للخيبة لاحقاً، إضافة إلى ذلك قد تغلق منصات التواصل، أو تحجب، أو تتغير سياساتها في أي وقت، والأرباح نفسها قد تتوقف فجأة، وقد خسر كثر من المؤثرين البالغين مصادر دخلهم بين ليلة وضحاها بسبب تغيير في الخوارزمية أو توقف الرعايات.
انطلاقاً من ذلك ينصح أبو زيد "بالتركيز على التعليم ليس فقط من أجل الوظيفة، بل لبناء الشخصية، والتفكير، والمعرفة، والقدرة على التعامل مع الحياة، إذ لا يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تمنح هذه الأسس. حتى إن من ينجحون فيها على المدى الطويل يحتاجون إلى مهارات في الإدارة، التسويق، الإنتاج، والتحليل، وهي أمور لا تكتسب من دون دراسة أو تدريب حقيقي. فلا يمكن الاعتماد عليها كبديل عن الدراسة، ولا يجوز تقديمها للأطفال كمستقبل مهني. مع الإشارة إلى أن تشجيع الأطفال على تحقيق الشهرة على منصات التواصل الاجتماعي يسهم في تعريضهم لضغط الشهرة في سن مبكرة، ولاستبدال اللعب والطفولة بالتصوير والالتزامات، وهذا ما يعد خطأ كبيراً. هذا، في وقت لا يجوز إفساد طفولتهم أو تعرضهم لمسار مهني غير آمن فقط لأن المنصات تعد بشهرة سريعة".
اندبندنت عربية
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=199&id=204077