رحاب الإبراهيم :
ضمن أسواق المدينة القديمة المرممة وعلى أرصفة الأسواق الحديثة, عاد الباعة أو الباحثون عن رزق سريع يعرضون صابون الغار في مناطق مختلفة من مدينة حلب، في دلالة إلى أن هذه الحرفة بدأت تستجمع قواها مجدداً، لكنها تحتاج «شوية صبر» حتى تعود إلى عزها، حسبما أجمع كل صناعيي وتجار هذه المهنة عند المرور بسوق باب جنين الشعبي المعروف، بعد أن بدأت محلاته تفتح أبوابها، معلنة العودة التدريجية وإن كانت روائح صابون الغار الحلبي الفواحة كفيلة بإخبار كل عابر في أرجائه التي كانت مدمرة على نحو كبير بذلك، وسط حركة تجارية ضعيفة تذمر منها أهل الكار على أمل الفرج القريب, والانطلاق نحو إعادة تشغيل المعامل و«المصابن» .
سوق «ميّت»
انشغال صناعيي وتجار سوق باب جنين الذي كان منطقة حرب وتماس مباشر مع المجموعات الإرهابية، بترتيب وهندسة صابون الغار في محالهم التي قاموا بإعادة ترميمها من جديد، يشعر كل من يمر بهذا السوق بأن هذه المهنة بدأت باستجماع قواها ومعاودة النهوض وأن هناك الكثير من المشكلات التي تمنع الانطلاق بالسرعة المأمولة وسط وضع «العصي في العجلات» كالعادة واستفادة تجار الأزمات من الثغرات الحاصلة، لتحقيق المكاسب والإساءة إلى هذا المنتج التراثي العريق، وهنا يتحدث خالد زنابيلي أحد صناعيي وحرفيي صابون الغار عن هذا الواقع بقوله: «رجعنا إلى هذه المصلحة لكونها تعد إرثاً يتجاوز عمره الـ 400 عام، ولأجل ذلك فتحنا مصابن في البيت للمحافظة على هذه الحرفة مع تقليل الكميات المنتجة سابقاً، إذ يتم الاكتفاء بطبخ 10 أطنان في السنة فقط لحماية صناعة صابون الغار، وقد جربنا فتح مصابن في اللاذقية لكن الطقس لم يسمح بذلك، فصابون الغار يحتاج إلى جو مناسب حتى يصنع بطريقة صحيحة».
تراجع ولكن!!
واقع صناعة صابون الغار الراكد يشير إليه بتشاؤم زكريا عطار ابن أحد أصحاب معامل الصابون الكبار والذي أكد أنه تحول إلى تجارة الصابون حالياً بعد توقف معمله من جراء الضغوط الكثيرة التي تتعرض لها هذه الصناعة المهمة التي تراجعت حسب رأيه، أكثر من 300% مع توقف أغلب المعامل المختصة بصناعة الصابون، فمن أصل 200 معمل يعمل 5 فقط، مع العلم أن أكبر معمل متوقف حالياً.
لكن والد أحد الصناعيين طارق أنس الذي يدير المحل في باب جنين بدل ابنه الصناعي يبدو أكثر تفاؤلاً مع محاولته مسك العصا من الوسط بقوله: منذ عامين عدنا إلى العمل بعد تحرير المدينة من الإرهاب، فلا شك في أن هذه المهنة تضررت كثيراً بعد أن كان سوق باب جنين منطقة تماس مع المجموعات الإرهابية، وخلال الحرب نقلنا عملنا إلى صافيتا وعند تحرير المدينة عدنا إلى حلب مع تصنيع الكمية نفسها، والاستمرار والتصدير إلى الدول الأوروبية وبدأت المعامل على قلتها تعمل والمحلات في السوق التي يقارب عددها الـ 120 محلاً نصفها محلات لصابون الغار «جملة ومفرق» تفتح أبوابها، مؤكداً أن المنتج مطلوب عالمياً لكن للأسف السوريون لا يستخدمونه برغم أن المواد كلها طبيعية في حين يفضلون الشامبو مع أنه يضر بالشعر والبشرة، مشيراً إلى وجود تسهيلات من وزارة الصناعة لتطوير صناعة الصابون، مطالباً بتحليل الصابون قبل شحنه للتصدير، فإهمال هذه الخطوة يتسبب في قيام بعض الأشخاص بضرب سمعة صابون الغار المعروف بجودته ومواصفاته النوعية.
ويؤكد زهير حلبي -تاجر أن المستلزمات الأساسية للصابون وتصنيعه أصبحت متوافرة، فاليوم المواد الأولية كلها طبيعية مؤمنة، علماً أنه يتم تأمين زيت الزيتون من عفرين والمواد المصنعة مستوردة تقريباً، وقد عدنا إلى العمل منذ العام 2017، مشيراً إلى وجود بعض الزبائن في أوروبا وسط معاناة في التسويق للمحافظات، مشيراً إلى أن سوق حلب عاد للحركة بنسبة 30 %، إذ تصنع نصف الكمية، لافتاً إلى أن المنطقة الشرقية تأخذ الصابون ذا الجودة الأقل، والمناطق الوسطى تأخذ الصابون ذا الجودة الأفضل، لكن بكميات ضعيفة بسبب ارتفاع المواد الأولية على نحو تسبب في قلة الطلب على صابون الغار.
صعوبات بالجملة
لم تسلم صناعة صابون الغار من تداعيات الحرب التي فرضت ظروفاً صعباً على صناعييها دفعت الكثير منهم إلى إيقاف العمل والتحول إلى تجار ريثما تتحسن الأوضاع، يشير خالد زنابيلي إلى أن أبرزها يتمثل في عمليات التلاعب والغش في مواصفات المنتجات المعروفة عبر إضافة زيت الفلافل أو دهن الفروج، لذلك عمد أصحاب هذه المنتجات إلى إضافة الاسم الكامل حماية للملكية ومنعاً للغش، فهذا منتج تراثي ويصدر إلى الخارج وليس شخصياً، لافتاً إلى أن هذه الأفعال ضربت سمعة صابون الغار الأصلي الذي يتعرض أيضاً إلى التزوير وتحديداً في منطقة عفرين عبر وجود أختام مزورة تقلد المنتجات الأصلية، وذلك كله بسبب غياب الرقابة، فالمناطق التي ما زالت خارج سيطرة الدولة تسببت في إلحاق الضرر بهذا المنتج، لذا المطلوب تفعيل عمل الجمعيات الرقابية.
واشتكى زنابيلي من مشكلات أخرى فرضتها ظروف الحرب وزادت من الأعباء وارتفاع التكاليف الإنتاجية إلى أرقام قياسية تحد من قدرة المنتج على المنافسة في السوق المحلية والخارجية، ناهيك بتعرض المنتج أيضاً للغش، لذا من الأفضل السماح باستيراده أو الرقابة على عمليات تصنيعه محلياً وخاصة أن أسعاره ارتفعت بنسبة كبيرة إذ يصل سعر الكيلو إلى 7 آلاف ليرة.
وأشار إلى ضرورة ضبط سعر الصرف، فالتذبذب يؤثر سلباً في هذه المهنة، فالصناعيون برغم ضرر ارتفاع سعره لكنهم راضون بوصوله إلى ألف ليرة شرط استقراره، مؤكداً وجوب دعم صناعة الصابون، مع العمل على إزالة الرسوم المفروضة من قبل بعض الجهات، مع الالتزام بدفع الضرائب لكونها حقاً للخزينة العامة.
وبين أن المنطقة الشرقية تطلب صابون الغار لكن الأوضاع الأمنية تحول دون ذلك، لذا الاستقرار يعد من أهم المطالب لتنشيط واقع هذه الصناعة، مطالباً بمساواة مدينة حلب ببقية المحافظات، فمعاملتها تتميز بالأسوأ من دون النظر إلى خصوصيتها الصناعية، وهنا يطالب بعودة التسعير في الإدارات وليس في المحافظات، مشيراً إلى أن الوضع الاقتصادي صعب، فالسوق المفتوحة والمربح القليل أفضل من السوق الضيقة والمربح الكبير.
يؤيده زكريا عطار الذي يشير إلى أن البعد والطرقات المغلقة والمقطوعة تؤثر في تسويق صابون الغار، وخاصة في ظل أجور النقل المرتفعة على نحو رفع سعر الصابون الذي يتحكم في إنتاجه البعض من خلال وجود زيت الغار والمطراف في عفرين، علماً أن أغلب الصابون المصنع الموجود في المدينة من تصنيعها، فالصناعيون مجبرون على شراء هذه المنتجات من عفرين لكون استيراده أغلى والمواد الأولية غير متوافرة حالياً، إضافة إلى انقطاع الكهرباء والرسوم المفروضة على السيارات المحملة بالصابون، مشيراً إلى وجود إشكالية تعترض هذه المهنة تتمثل في نقص اليد العاملة الخبيرة وتحديداً من الشباب الذين يعانون ضغوطاً كثيرة، فاليوم أجور العمالة مرتفعة مع عدم توافر «طبيخة» لصناعة صابون الغار، على نحو ألحق ضرراً كبيراً بهذه المهنة التي يفترض دعمها باليد الخبيرة الشابة حتى تستمر.
دعم للإنقاذ
وجع صناعيي وحرفيي صناعة صابون الغار الحلبي من جراء المشاكل الكثيرة التي تحول دون عودة هذه الصناعة إلى عزها -كما يرغبون- نقلناه إلى رئيس لجنة صناعة صابون الغار والزيتون في غرفة صناعة حلب هشام جبيلي الذي قام بتأهيل «مصبنته» في أسواق حلب القديمة التي يعود عمرها إلى أكثر من 900 عام بعد توارث هذه المهنة عن أجداده، حيث اتفق مع ما ذكره الصناعيون بخصوص ما يواجههم من مشاكل وأهمها حسبما أشار التكلفة العالية التي تفرض على الصناعيين لإحضار المواد الأولية من عفرين وتحديداً زيت المطراف أو من المحافظات السورية الأخرى عند جلب زيت الغار، والأمر ذاته ينطبق على تسويق المنتجات المصنعة عند نقلها إلى الجزيرة السورية، التي تعد أكبر مستهلك لصابون الغار الحلبي، وهنا يطالب بدعمها عبر تسهيل نقل زيت الغار من محافظات الساحل والمنطقة الوسطى وزيت المطراف من عفرين بحيث تكون التكلفة رمزية عند نقل صهاريج هذه الزيوت إلى حلب، فاليوم بسبب التكاليف المرتفعة وتحديداً فيما يتعلق بزيت المطراف لجأ الصناعيون إلى إحضار الزيت من حسياء الصناعية، التي لا يوجد فيها حالياً سوى 3 معامل.
ولفت جبيلي إلى وجود مشكلة أخرى تتعلق بغش وتزوير ماركات صابون الغار الحلبي المعروفة المصنعة من قبل صناعييها الذين توارثوا المهنة أباً عن جد، مشيراً إلى أنه تم حل هذه الإشكالية عبر وضع مواصفات قياسية سورية جديدة لصابون الغار الحلبي بعد الاشتغال عليها منذ 6 أشهر، وسوف يتم إقرارها قريباً على نحو يحفظ ويرفع اسم صابون الغار الحلبي في الأسواق الخارجية ويمنع تزويرها تحت أي ظرف، مؤكداً وجود عقبة ثانية تتعلق ببعض الأشخاص الدخلاء على المهنة بتصنيع ماركات صابون الغار الحلبي ووضع أسماء العائلات العريقة على الصابون المنتج من دون أن يكون لديهم سجل صناعي أو معمل أو مصبنة، بشكل أثر في الصناعيين الحقيقيين وألحق ضرراً كبيراً بصناعاتهم، مبيناً أن هذه المشكلة تحل عبر امتناع مديرية حماية الملكية في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن منحهم حماية ملكية لمنتجهم إلا في حال وجود سجل صناعي أو يكون صاحب معمل أو مصبنة من أجل حماية وحفظ صابون الغار الحلبي ومنع التلاعب بمواصفاته.
ولمعرفة ماذا فعلت الجهات المعنية وتحديداً التجارة الداخلية وحماية المستهلك لقمع ظاهرة الغش ومحاسبة المخالفين الذين يتلاعبون بسمعة منتج تراثي معروف، أكد أحمد السنكري مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حلب قيام مديريات التجارة الداخلية بتنظيم ضبوط بمخالفة غش صابون الغار خلال العام الفائت، وبعد تنظيم الضبط تتم إحالة المخالفين إلى القضاء، مشيراً إلى أنه عند تبيان وصول معلومات عن وجود منتج مخالف يتم سحب عينة منه وتحليلها في مخابر التموين، وفعلاً كشفت العينات مخالفات في المواصفات السورية من دون إظهار أن الغش يكون بإضافة زيت الفلافل أو دهن الفروج، حيث يظهر التحليل أنها مخالفة للمواصفات القياسية السورية المعتمدة. وعند سؤاله عن وجود شكاوى من صناعيي الصابون قدمت إلى التجارة الداخلية بهذا الخصوص، اكتفى السنكري بالقول: لا يوجد أي شكوى مقدمة من قبل صناعيي هذه المهنة بخصوص غش منتجاتهم أو التلاعب بها.
تشرين
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=192&id=178525