الاتفاقيات التجارية التي وقّعها لبنان كان لها مردود سلبي على الاقتصاد الوطني، فلا هي ساهمت في انتشار المُنتجات اللبنانية في الأسواق العالمية، ولا سهّلت انتقال رأس المال والأفراد، جُلّ ما تسبّبت به هو زيادة العجز في الميزان التجاري، وبالتالي استنزاف الدولارات. الثغرة الأساسية أنّ توقيعها والمفاوضات مع الدول، تتمّ بشكل مُنعزل عن أي رؤية اقتصادية، وعلى أي أساس تُختار الأسواق، وما الهدف الذي يُراد بلوغه، فتتحوّل الاتفاقيات إلى حفلة علاقات عامة وضرب كؤوس النبيذ احتفالاً! وعلى الرغم من تعميقها الأزمة الاقتصادية، «تُمنَع» إعادة دراسة جدواها وتعديلها، بل يتحوّل الأمر إلى كباش سياسي، ورضوخ محلي للخارج في الحفاظ على تفوقّه التجاري
تخوض
الدول حروباً لتحقيق «عدالة تجارية» داخل حدودها وتُبقي على تفوّقها،
و«أشهرها» أخيراً الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.
أما في لبنان، فالاتفاقيات التجارية - وعلى محدوديتها - وجه آخر من وجوه
فقدان السيادة. يصحّ فيها ما جاء في خطاب ألقاه كارل ماركس في بروكسل سنة
1848: «لا يفهم هؤلاء التجّار بأنّ دولة ما ستُصبح غنية على حساب دولة
أخرى». الفيلسوف الألماني، لم يكن من مؤيّدي «الحمائية التجارية»، لاعتباره
أنّها أيضاً من أدوات الرأسمالية، وتؤدّي إلى إبقاء أسعار الصناعة المحلية
مُرتفعة، ولكنّه انتقد في خطابه من يُروّج لاستفادة الطبقة العاملة من
التجارة الحرّة، وبأنّها تُسهّل التقسيم الطبيعي للعمل بين البلدان:
«التجارة الحرة هي الحرية بأن يسحق رأس المال العامل... هي تُشبه المنافسة
اللامحدودة داخل حدود بلد ما، ولكن تتم إعادة إنتاجها بأبعاد أكبر في السوق
العالمية».
أبرم لبنان ثلاث اتفاقيات تجارية: منطقة التجارة الحرّة
العربية الكبرى (غافتا - 2002)، الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (2006)، رابطة
التجارة الحرّة الأوروبية (إفتا - 2007). ماذا نال لبنان مقابل توقيعه على
هذه الاتفاقيات الحرّة؟ زيادة العجز في الميزان التجاري (الفارق بين
الاستيراد والتصدير. وكلما كان العجز أكبر، كلما استُنزِفت العملات
الأجنبية وتعرضت العملية المحلية للضغط). مثلاّ، صدّر لبنان في 2019 إلى
الاتحاد الأوروبي بقيمة 360 مليون دولار، واستورد بـ7 مليارات و316 مليون
دولار. وصدّر إلى الدول العربية منتجات بمليار و520 مليون دولار، واستورد
بقيمة 2 مليار و577 مليون دولار. فجوة مصرف لبنان (الدولارات «الضائعة»)
البالغة 54 مليار دولار، «لها أربعة مداخل: الهندسات المالية، دفع الفوائد
بالعملات الأجنبية لغير المُقيمين، فاتورة الكهرباء، والعجز في الميزان
التجاري»، يقول وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش، شارحاً أنّ النقطة
الأخيرة جزء أساسي منها ناتج «عن التركيبة الاقتصادية، ولكن أيضاً يدخل
فيها سوء توظيف الاتفاقيات التجارية». يستدرك بأنّ الاتفاقيات «ليست أمراً
سيئاً بالمُطلق، ولكن في الشكل الذي وُقّعت به، تحوّلت إلى واحد من الأسباب
الأساسية لتدمير الاقتصاد». يحتدّ الوزير السابق، واصفاً هذه العقود
التجارية بأنّها «اتفاقيات الموت الاقتصادي»!
تُخبر المديرة العامة
السابقة لوزارة الاقتصاد عليا عبّاس أنّه «حين عُيّنت في الوزارة، أجرينا
تقييماً لنُحدّد إن كانت الاتفاقيات التجارية المعقودة قد أضرّت بنا أم
استفدنا منها، وأرسلت التقارير إلى الجهات المعنية بأنّ العجز في الميزان
التجاري يرتفع ويجب إعادة النظر في الاتفاقيات». تبيّن أنّ العراق هو
الدولة الوحيدة المُنضوية ضمن اتفاقية «غافتا» العربية التي استفاد لبنان
من التجارة معها (في تقرير لبعثة صندوق النقد الدولي سنة 2004، ورد أنّ
الصادرات اللبنانية ارتفعت 29% في النصف الأول من عام 2004 نتيجة زيادة
التصدير إلى العراق). «لا نتوقع أن يتساوى ميزاننا التجاري مع بقية الدول،
ولكن أقلّه أن لا يكون الفارق السلبي مُرتفعاً إلى هذا الحدّ»، تقول عبّاس،
التي تذكر مُشاركة الوفد اللبناني برئاسة بطيش في اجتماع المجلس الاقتصادي
- الاجتماعي العربي سنة 2019. عُقدت لقاءات مع ممثلي الدول العربية
للتوصّل إلى شروط أفضل، من دون أن تكون هناك استجابة، «رغم أنّ عدداً من
البلدان لا يلتزم بالشروط. المغرب مثلاً توقّف عن استيراد المعدات
الكهربائية من إحدى شركاتنا المحلية بعد أن أصبح يُصنّعها»، وبعض البضائع
اللبنانية تُعرقَل على الحدود المصرية.
ويسوء الوضع أكثر مع اتفاقية
التجارة الحرّة بين لبنان والاتحاد الأوروبي. البعض يتحدّث عن مشكلة
لبنانية ناتجة عن نوعية الإنتاج غير المؤهلة للمنافسة، والبعض الآخر يذكر
التضييق الغربي والعربي الذي يُمارس على البلد في هذا الخصوص. على المستوى
الأول، يقول أحد المسؤولين في وزارة الاقتصاد إنّ في لبنان «11 معمل دواء،
ولسنا قادرين على تصدير حبة دواء واحدة إلى أوروبا لعدم استيفاء المعايير».
وُضعت اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2003، ودخلت حيّز التنفيذ
سنة 2006، «بعد قرابة 20 عاماً، ماذا فعلنا لنتمكّن من المنافسة
والتصدير؟»، يسأل بطيش، مُضيفاً أنّه «حين لا نُحسّن نوعية المُنتج
اللبناني، نحن نخسر». هبات ومساعدات بملايين الدولارات قُدّمت لتحسين
الجودة والكمية والنوعية، ألم نستفِد منها؟ يُجيب بطيش بأنّ «تدقيقاً يجب
أن يُجرى لمعرفة أين صُرفت تلك الأموال». ولكن بالنسبة إلى عليا عبّاس
القصة ليست محصورة بتدنّي جودة المنتجات اللبنانية: «النوعية اللبنانية
جيدة، ولكن أولاً، كلفة الصناعة لدينا مُرتفعة. ثانياً، كان الأوروبيون
يشترطون وجود هيئة مستقلة للإشراف على جودة البضاعة المُصدّرة. قلت لهم إذا
ما زلتم سلطة مستعمرة أخبرونا، فأنتم ما يعنيكم هو فقط إذا كانت البضائع
مُطابقة للمواصفات أم لا. هل يُعقل أنّ شركة لبنانية تحمل امتيازاً تجارياً
لشركة فرنسية، ممنوعة من تصدير الحليب إلى أوروبا؟».
لا يُمكن لشركة لبنانية تحمل امتيازاً تجارياً لشركة فرنسية أن تُصدّر الحليب إلى أوروبا!
ثلاث
اتفاقيات فقط وقّعها لبنان، لكن يوجد عددٌ إضافي من مشاريع الاتفاقيات
الخاضعة للمفاوضات. اتفاقية «أغادير» (مصر، الأردن، المغرب، تونس) لا تزال
قيد الإنجاز منذ أن بدأت المفاوضات في 2014. يُخبر بطيش أنّ «أغادير تُسهّل
علينا الولوج إلى السوق الأوروبية. كان يجب أن نوقّعها عام 2019، ولكن
يبدو أنّ موقفاً سياسياً بالتمنّع اتّخذته الدول الأربع». ثمة اتفاقيتان
قيد التفاوض، الأولى اتفاقية شراكة مع بريطانيا، والثانية اتفاقية تجارة
حرّة مع دول «الميركوسور» (البرازيل، الأرجنتين، باراغواي، الأوروغواي،
فنزويلا). تروي عليا عبّاس أنّه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي،
«طلبوا توقيع اتفاقية تجارة ثنائية مُشابهة للاتفاقية الأوروبية -
المتوسطية. أجبنا بأنّنا نُريد تعديلها لتحسين وضعنا». المفارقة أنّ «وزير
الخارجية السابق جبران باسيل وقّعها من دون تفويض من مجلس الوزراء، ولكنّها
لا تدخل حيّز التنفيذ قبل التصويت عليها في مجلس النواب». أما في ما خصّ
«ميركوسور»، فتُقدّم عبّاس مثالاً البرازيل التي نستورد منها بـ310 ملايين
دولار ونُصدّر بـ9 ملايين دولار (أرقام الجمارك في آذار 2020)، «ما المصلحة
من توقيع اتفاقية حرة؟ طرحنا اتفاقية تجارية تفضيلية، نُحدّد بموجبها
المواد التي نحتاج استيرادها. رُفض الطرح في وزارة الخارجية. أصدرنا لائحة
سلبية، أي السلع التي يجب ألّا يشملها الاستيراد، فاعترض الوزير باسيل
بأنّنا نُعرقل الاتفاقية. تواصلنا معه موضحين أنّه لا يُمكن استيراد
المواشي من هذه الدول، فيما المُزارعون هنا يُعانون من سوء التصريف، فردّ
بأنّ الاتفاق تمّ على أساس توقيع اتفاقية تجارة حرّة». يقول بطيش: «نحن مع
حرية التبادل، شرط أن نكون قادرين على حماية أنفسنا. إذا أردنا تحرير
الاقتصاد وفتح السوق اللبنانية أمام البضاعة الأجنبية، فيجب تحسين النوعية،
تنظيم دورات تدريب وتثقيف لليد العاملة، إرساء إدارة جيدة، ومنح قروض
مدعومة وفق خطة اقتصادية مُتكاملة».
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=137&id=183992