سيرياستيبس :
الحديث عن هوية الاقتصاد السوري يتجاوز التسميات النظرية، سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية. فالسؤال الجوهري الذي يحدد هذه الهوية ليس أين يتم إنتاج الثروة، بل كيف يتم توزيعها بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وإذا ما نظرنا إلى نمط توزيع الثروة في سورية، سنجد أنه في أحسن الحالات، يذهب 90% منها إلى أصحاب الربح، بينما يحصل أصحاب الأجور على 10% فقط. وعندما نضيف إلى هذه المعادلة التخلف والتشوه في شكل علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة، فإننا نصل إلى نتيجة بسيطة وواضحة: ما يسود بلادنا اقتصادياً هو اقتصاد السوق المشوه، وهو جزء من الاقتصاد الرأسمالي.
حديث الحكومة اليوم عن التوجه نحو «اقتصاد السوق الحر» ليس بجديد، بل هو استمرار لمسار بدأته السلطة السابقة منذ عقود. فمنذ سنوات طويلة، تبنت سلطة الأسد سياسات تحرير التجارة الخارجية وتقليص القيود على حركة رؤوس الأموال. وتم ترويج هذه السياسات للسوريين على أنها ستجذب الاستثمارات الأجنبية وتساهم في رفع مستوى معيشتهم، لكن النتائج كانت كارثية على القطاعات الإنتاجية الوطنية.
يتذكر السوريون جيداً كيف شهدت البلاد في ظل هذه السياسات فتحاً واسعاً لأسواقها أمام السلع المستوردة، مع تقليص الرسوم الجمركية بشكل كبير. وقد أدى هذا الانفتاح إلى إغراق السوق المحلية بمنتجات أجنبية، كانت في معظم الأحيان أرخص من مثيلاتها السورية. لكن هذا الفرق في الأسعار لم يكن ناتجاً عن كفاءة أو جودة أعلى، بل كان نتيجة للدعم الحكومي الذي كانت تتلقاه هذه المنتجات من دولها المصدرة. في المقابل، كانت السياسات السورية تقلص الدعم للإنتاج المحلي، مما خلق منافسة غير متكافئة. ونتيجة لذلك، سرعان ما هيمنت المنتجات المستوردة على السوق، وعجزت الورش والمصانع السورية الصغيرة والمتوسطة عن الاستمرار، مما أدى إلى تراجع هذا القطاع الحيوي بشكل كبير.
ورغم وعود السلطة السابقة بأن هذه السياسات ستجذب الاستثمارات وتخلق نمواً اقتصادياً، إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً. حيث لم تتحقق تلك الاستثمارات الموعودة، بل تراجعت القطاعات الإنتاجية الأساسية، وزادت معدلات البطالة، وارتفع الاعتماد على السلع المستوردة. وما حدث فعلياً هو تعزيز الطابع الريعي للاقتصاد السوري، وتسريع عملية تكديس الثروات في جيوب القلة الناهبة للشعب.
لذلك، عندما تُطرح اليوم فكرة اعتماد اقتصاد السوق الحر كحل لأزمة سورية، يجب العودة إلى التجربة السابقة والنظر في نتائجها الكارثية. فبدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية الوطنية أو وضع استراتيجيات لحمايتها، جرى تدميرها باسم الانفتاح، مما يجعل تكرار مثل هذه السياسات خطيراً على مستقبل الاقتصاد السوري ومعيشة السوريين.
أما فيما يخص نفي التوجه نحو الخصخصة، فهذا يبدو كلاماً مطمئناً للوهلة الأولى، لكن هناك ما يثير الشكوك حوله، خاصة في ظل التوجه نحو جذب الاستثمارات الخارجية بأي ثمن. حيث يبرز حديث متصاعد لدى السلطة والمسؤولين الحكوميين عن نوع محدد من عقود الاستثمار، لا سيما في قطاع الطاقة الحيوي الذي يعاني من نقص حاد في الإنتاج وتدمير واسع في البنية التحتية. ففي 26 شباط الماضي، أعلنت وزارة الكهرباء السورية (قبل دمجها لاحقاً في وزارة الطاقة) دعوتها للمستثمرين لتقديم عروضهم لاستثمار محطة طاقة كهروضوئية في ريف دمشق، معلنة أن نظام الاستثمار المعتمد هو نظام BOO. وفي 29 أيار، وبعد توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة وتحالف شركات بقيادة رجل الأعمال السوري- القطري، محمد معتز الخياط، لتطوير مشاريع جديدة في قطاع الكهرباء باستثمارات تقدر بـ7 مليارات دولار، أعلنت وزارة الخارجية أن المشروع سينفذ أيضاً وفق نظامي BOO وBOT دون تحديد الجوانب التي سيغطيها كل نظام.
لكن ما الفرق بين هذين النظامين؟ نظام BOT يعني أن المستثمر سيقوم ببناء المشروع وتشغيله لفترة زمنية محددة، ثم يعيده إلى ملكية الدولة في نهاية العقد. وهذا النظام يضمن للدولة استعادة سيادتها على الأصول. أما نظام BOO فيعني أن المستثمر سيقوم ببناء المشروع، ثم سيمتلكه ويشغله. واعتماد هذا النظام يعني عملياً التخلي عن ملكية القطاع المستثمر، وهو ما يعادل الخصخصة الكاملة والمطلقة. وبالتالي، فإن نفي الحكومة للتوجه نحو الخصخصة يتناقض بشكل مباشر مع اعتمادها لنظام BOO في قطاعات حيوية مثل الطاقة، مما يثير تساؤلات جدية حول صدق هذه التصريحات.
من مقال منشور بجريدة قاسيون
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=131&id=202629