كيف تغير الناس حين صار كل منهم شاشة تمشي؟
25/11/2025
سيرياستيبس
يملك اليوم أكثر من 5 مليارات إنسان حسابات فاعلة على منصات التواصل، أي ما يزيد على 60 في المئة من سكان الكوكب، يقضون في المتوسط أكثر من ساعتين يومياً على هذه المنصات.
في المنطقة العربية، تسارع التحول أكثر، أي إن نحو 70 في المئة من السكان متصلون بالإنترنت، ونحو ثلاثة أرباع الشباب العرب يكافحون لفصل أنفسهم عن الشاشات، بينما يقر نحو 61 في المئة منهم بأن الإفراط في الاستخدام يضر بصحتهم النفسية. هنا لا يعود السؤال: ماذا نفعل على الشاشات، بل ماذا فعلت الشاشات بنا؟
في علم النفس الاجتماعي يعد عرض الذات أمام الآخرين سلوكاً قديماً لأن الإنسان يختار كلماته وثيابه وطريقة ظهوره بحسب كل موقف. ولكن الجديد اليوم أن هذا العرض لم يعد لحظات متفرقة، بل حالة شبه دائمة، لأن الهاتف لا يفارق اليد، ولأن إمكانية النشر موجودة في أي وقت.
على مدى الأعوام الأخيرة، تراكمت دراسات تحاول قياس أثر هذا التغيير على المراهقين والشباب. مراجعة منهجية نشرت عام 2025، جمعت عشرات الأبحاث حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لدى الفئة العمرية بين 12 و25 سنة، وخلصت إلى أن غالبية الدراسات تجد ارتباطاً إيجاباً بين كثافة الاستخدام من جهة، وأعراض الاكتئاب والقلق من جهة أخرى، وكلما زاد الوقت أمام الشاشة، زادت احتمالات ظهور الأعراض. فنحن لا نرى ما يفعله الأصدقاء المقربون فحسب، بل مئات الوجوه من دوائر أوسع. والمحتوى المعروض هو عادة أفضل لقطات من حياة الآخرين، أي أجساد مثالية، نجاحات، حفلات، أسفار، علاقات تبدو مستقرة وسعيدة.
بينت مراجعات علمية حديثة حول "المقارنة الاجتماعية" عبر "السوشيال ميديا" أن المشكلة ليست في رؤية حياة الآخرين في حد ذاتها، بل في تكرار هذه الرؤية طوال اليوم، وفي سهولة قياسها بأرقام عدد المتابعين وعدد الإعجابات وسرعة التفاعل. بهذه الطريقة، يصبح تقدير الذات أقل اعتماداً على التجربة الداخلية، وأكثر ارتباطاً بما يحدث على الشاشة. هنا يظهر مصطلح "الخوف من فوات الشيء" أوFOMO وهو الموضوع الذي صار عنواناً لدراسات عدة خلال الأعوام الأخيرة. وجاءت النتيجة العامة متشابهة، أي إنه كلما ارتفع الإحساس بأن "هناك شيئاً مهماً قد يحدث من دوني"، زاد وقت يقضيه الفرد في تفقد المنصات، وارتفعت مؤشرات القلق واضطراب النوم وتشتت الانتباه. ويظهر هذا التشتت في أسئلة متكررة ودائمة، مثل هل هذه الصورة لائقة، أو هل هذا الرأي يمكن أن يسبب مشكلة في المستقبل، أو هل هذا المزاح قد يفهم كإساءة؟
لا تعني هذه الأسئلة أن كل مستخدم يعيش في توتر دائم، لكنها تشير إلى أن جزءاً من الرقابة الداخلية اليوم موجه إلى جمهور متخيل حاضر في الذهن.
في الخلفية، تزداد أرقام الشعور بالوحدة على مستوى العالم. تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في منتصف عام 2025 قدر أن واحداً من كل ستة أشخاص يعاني الوحدة، وربط بين ضعف الروابط الاجتماعية وزيادة خطر الوفاة المبكرة وأمراض القلب والخرف. وهنا تظهر مفارقة، جيل يعيش محاطاً بالرسائل والإشعارات طوال اليوم، ومع ذلك تسجل فيه أعلى نسب الشعور بالوحدة وعدم الكفاية.
التقنية والأخلاق والشخصية
عند مارتن هايدغر (فيلسوف ألماني) التقنية ليست مجرد أدوات، بل هي أسلوب وجود شامل يطاول الحياة الشخصية والأخلاق والفكر. لا يمكن لمجتمع أن يعيش بأفكار بالية ثم يستعمل أحدث التقنيات من دون أن يغير نظرته إلى الحياة والتراث والهوية. والتواصل الروحي والمادي يمر عبر الهاتف الذكي الذي صار بنكاً وخريطة وكاميرا في آن واحد. التقنية وحدة حداثية لا تقبل التجزئة ولا التوفيق السطحي بين "تراث" و"معاصرة" من دون إعادة تعريفهما، والهوية نفسها لم تعد جوهراً ثابتاً بل اختلافاً متعدد الأشكال.
مع ذلك هذه الثورة ليست بريئة، تبدو "يوتوبية" ومبشرة لكنها تحمل أخطاراً بيولوجية وأخلاقية جسيمة. جيرمي ريفكن (باحث أميركي في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد)، ينتقد نزعات ما بعد "الترانس هيومانية" بوصفها انتقائية خاضعة لمنطق السوق والشركات التقنية الكبرى، مما يعني استفادة الأغنياء وحدهم من وعود "الإنسان المكمل"، خلافاً للشعار الأصلي في خدمة البشر جميعاً.
في السياسة التقليدية، كان "الجمهور" يقاس بصور واضحة، حشود في الشوارع، طوابير أمام صناديق الاقتراع، نسب مشاهدة النشرات الإخبارية. ومع صعود المنصات، ظهر نوع آخر من الحضور، فبات الجمهور مبعثراً في ملايين الحسابات، يتفاعل في الزمن الحقيقي مع أي حدث، ويترك أثراً ملموساً على شكل أرقام، أي نسبة المشاهدات والمشاركات، والوسوم المتصدرة، وفي تجارب العقدين الأخيرين يظهر وجهان متوازيان لهذا التحول.
من احتجاجات "الربيع العربي" قبل أكثر من عقد، إلى حركات مثل "حياة السود مهمة" أو حملات التضامن مع غزة وأوكرانيا وغيرها، ظهرت المنصات كأداة حشد سريعة فتقوم بنقل مباشر من أرض الحدث، وتنسيق المواعيد لتحقيق الحدث نفسه، كالتظاهر واللقاء والتخطيط، وكذلك كسر الاحتكار التقليدي للمعلومة. لكن مع توسع هذه المنصات، لم يعد هناك "رأي عام واحد" بقدر ما توجد فقاعات متعددة. كل فقاعة تتابع مصادرها الخاصة، وتثق برموزها، وتعيد تدوير المواد التي تؤكد ما تؤمن به مسبقاً. هذه "الجمهوريات الصغيرة" أعطت فرصة لأصوات كانت مهمشة في الإعلام التقليدي، لكنها جعلت النقاش العام أكثر تشظياً، وأصعب على الفهم والقياس من الخارج.
على سبيل المثال فإن الخبر الذي يوضع تحت عنوان "الأكثر تداولاً" بات في كثير من الحالات مؤشراً موقتاً لدرجة الحرارة السياسية، فما يتصدر "الترند" ساعات أو أياماً يجبر وسائل الإعلام على اللحاق به، وتدفع مسؤولين للرد أو التوضيح، أو لتأجيل قرار حساس.
العلاقات اليومية: كثير من الاتصال وقليل من الأصدقاء
خارج السياسة، تظهر آثار "الشاشة التي تمشي" في تفاصيل الحياة الأكثر عادية كالصداقة والحب والعائلة. والصورة الأولى إيجابية وظاهرة في الأرقام. ففي تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يشير إلى أن 78 في المئة من الشباب العرب بين 15 و24 سنة متصلون بالإنترنت، وهي نسبة أعلى من متوسط بقية الفئات العمرية. وهذا يعني أن الاتصال اليومي أصبح أسهل بكثير، فبات لدى الجميع أصدقاء من بلدان مختلفة ومجموعات للهوايات ولقاءات مهنية وتعليمية تتم كلها عبر الشاشة. لكن الصورة الثانية، الأقل وضوحاً، تظهر في تقارير الصحة النفسية والوحدة، مثل الشعور بوجود كثيرين من الأصدقاء، والشعور بالوحدة في آن واحد.
ليس كل استخدام لوسائل التواصل الاجتماعي يزيد الوحدة، لكن "الاستخدام السلبي" القائم على التفرج ومراقبة حياة الآخرين من بعيد، من دون تفاعل أو بناء روابط حقيقية، يرتبط بمستويات أعلى من الشعور بالعزلة وعدم الرضا عن الحياة. بهذا المعنى، يمكن أن يكون الهاتف مليئاً بالأسماء، لكن عدد الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم فعلياً عند الأزمات قد يكون أقل مما كان في الماضي، أي قبل جمع الأصدقاء وتصنيفهم في الحسابات الرقمية التواصلية.
ولم تسلم العلاقات العاطفية من هذا التحول، فظهرت أسواق تطبيقات المواعدة، وتوسعت عالمياً لتضم مئات الملايين من المستخدمين، بعوائد سنوية تقدر بمليارات الدولارات. وفي خلفية هذه الأرقام، تظهر ملاحظتان متكررتان في الدراسات والمسوحات، فمن جهة، فتحت التطبيقات باباً للالتقاء بين أشخاص لم تكن دوائرهم الاجتماعية تتقاطع في الحياة الواقعية. ومن جهة أخرى أدخلت فكرة "الخيار الموقت" إلى قلب التجربة العاطفية بسبب وجود شريط لا ينتهي من الوجوه والملفات الشخصية، وإحساس بأن الشريك أو الذات قابل للاستبدال في أي لحظة لتتوافق مع المطلوب للقبول في العالم الاجتماعي الجديد الذي أنشأته وسائل التواصل الرقمية.
"الإرهاق العاطفي"
بعض الدراسات التي تتناول جيل الشباب في أوروبا وأميركا الشمالية تلمح إلى حالة من "الإرهاق العاطفي": علاقات قصيرة، محادثات كثيرة لا تكتمل، إحساس بأن الاستثمار في علاقة واحدة صار أكثر كلفة نفسياً في بيئة تعد دائماً بإمكان العثور على "خيار أفضل" بضغطة إصبع.
في المنطقة العربية، تظهر دراسات ميدانية متفرقة على طلاب جامعات بأن كثيرين منهم يقضون عشرات الساعات أسبوعياً على المنصات، أحياناً بما يعادل وظيفة بدوام كامل، فيما يقر معظمهم بأن جزءاً كبيراً مما يتابعونه لا يعكس واقع حياتهم ولا واقع من ينشرون المحتوى. لا يعني هذا تلاشي الروابط العائلية، لكنه يعني أنها باتت تتعايش مع منافسة شرسة مع المحتوى الذي لا ينتهي، والقادر على ملء الفراغات الصغيرة والكبيرة من لحظة الاستيقاظ حتى ما قبل النوم. هكذا، يمكن أن تجلس عائلة كاملة في غرفة واحدة، لكن كل فرد يعيش، عبر شاشته، في غرفة زمنية أخرى.
الشاشات ليست السبب الوحيد لمشكلات القلق والوحدة وضعف الروابط الاجتماعية، لكنها أصبحت جزءاً لا يمكن تجاهله من الصورة.
التأثير يختلف بين الأفراد والمجتمعات، ويرتبط بالبنية الأسرية، والظروف الاقتصادية، ووجود شبكات دعم واقعية خارج العالم الرقمي.
هناك مكاسب حقيقية في الوصول إلى المعرفة، وفي التعبير السياسي، وفي الحفاظ على الروابط عبر المسافات، تقف إلى جانب كلفة نفسية واجتماعية محسوسة.
اندبندنت عربية
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=200&id=203730