
سيرياستيبس :
يشكل رفع "قانون قيصر" محطة مفصلية في مسار سوريا الإقليمي والاقتصادي، لكنه يبقى فرصة مشروطة بإصلاحات داخلية عميقة. فبين إعادة رسم النفوذ في المنطقة، واحتمالات انتعاش اقتصادي عبر إعادة الإعمار يقف لبنان عند تقاطع حساس: إما شريك في الفرص، وإما مُتلقٍّ لتداعيات تحولات لا يملك السيطرة عليها.
لم يأتِ رفع العقوبات عن سوريا، ولا سيما "قانون قيصر"، بوصفه تحولاً معزولاً أو قراراً تقنياً بحتاً، بل كخطوة سياسية تحمل أبعاداً إقليمية واقتصادية متشابكة. فالقرار الذي جاء بعد سنوات من العزل والعقوبات المشددة يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في التعاطي الدولي مع دمشق، ويطرح في الوقت نفسه أسئلة جدية حول قدرة الدولة السورية على ترجمة هذا الانفتاح إلى مسار إصلاحي فعلي. وفي موازاة ذلك يجد لبنان نفسه معنياً مباشرة بتداعيات هذا التحول، سواء لناحية إعادة رسم علاقته مع سوريا، أو لجهة الفرص والتحديات الاقتصادية التي قد تفرضها مرحلة ما بعد "قانون قيصر".
بدايةً، لا يمكن مقاربة رفع العقوبات عن سوريا بمعزل عن السياق الأوسع للتحولات التي شهدتها المنطقة منذ سقوط النظام السوري السابق. فالقرار لا يأتي فقط نتيجة متغيرات داخلية سورية، بل يتقاطع مع إعادة ترتيب أوسع لموازين القوى الإقليمية والدولية، شملت تراجع أدوار تقليدية، وصعود قوى جديدة، وتبدل أولويات الفاعلين الدوليين في مقاربة ملفات الشرق الأوسط، من غزة إلى لبنان، مروراً بسوريا.
في السياق اعتبر المتخصص في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية جو حلو أن "رفع العقوبات عن سوريا، ولا سيما (قانون قيصر)، يأتي في سياق تغيرات عميقة في موازين القوى الإقليمية والدولية، بدأت مع سقوط النظام السوري السابق، وما رافق ذلك من إعادة ترتيب للتحالفات والنفوذ في المنطقة"، وأشار حلو إلى أن "سقوط النظام السابق أدى إلى تراجع نفوذ إيران إقليمياً مقابل تقدم نفوذ أطراف إقليمية أخرى، بالتوازي مع بروز ترتيبات سياسية جديدة، شملت تقارباً بين النظام السوري الجديد ودول عربية وخليجية، على رأسها السعودية، إضافة إلى انخراط أميركي مباشر في هذا المسار، ترجم بسلسلة لقاءات سياسية على مستوى رفيع".
ولفت إلى أن "هذه التحولات لم تكن معزولة عن لبنان، بل جاءت ضمن سلسلة أحداث متراكمة شملت حرب غزة، الحرب في جنوب لبنان، وتداعيات ما بعد وقف العمليات العسكرية، ما انعكس تبدلاً في المشهد الإقليمي العام وفي موقع لبنان داخله".
في ما يتعلق بتأثير رفع "قانون قيصر" على العلاقات اللبنانية - السورية أوضح حلو أن "هذا الإجراء ينعكس أساساً على سوريا، ولا يطاول بصورة مباشرة العقوبات المفروضة على أطراف لبنانية، إلا أنه قد يفتح المجال أمام فرص اقتصادية للبنانيين في حال تطورت العلاقة بين البلدين ضمن إطار قانوني، متوازن، وقائم على الاحترام المتبادل"، وأشار إلى أن "انطلاق ورشة إعادة الإعمار في سوريا بزخم فعلي من شأنه أن ينعكس إيجاباً على لبنان، نظراً إلى موقعه الجغرافي، ومرافئه، وبنيته الخدماتية، مما قد يعيد تنشيط مرفأ بيروت وبعض القطاعات المرتبطة به".

وعن انعكاس رفع العقوبات على نفوذ الفاعلين الإقليميين داخل لبنان رأى حلو "أن الأمر بحد ذاته لا يعيد رسم النفوذ داخل لبنان مباشرة، لكن إعادة ترتيب النفوذ الإقليمي داخل سوريا يمكن أن تؤثر في لبنان بصورة غير مباشرة، في ظل تغير موازين القوى بعد التطورات العسكرية والسياسية الأخيرة في المنطقة"، ولفت إلى أن "المشهد الإقليمي شهد تراجعاً في أدوار تقليدية وصعود أدوار جديدة، مع حضور أميركي متزايد في لبنان، ترجم عبر تحركات دبلوماسية واتفاقات تعاون في مجالات تكنولوجية واقتصادية"، مؤكداً في الوقت نفسه أن "ذلك لا يعني انتهاء دور أي فريق لبناني، بل تغير طبيعة الأدوار وحدود النفوذ".
في ملف الحدود والنزوح السوري رأى حلو أن "الأسباب الجذرية للنزوح كانت الحرب في سوريا"، مشيراً إلى أن "سقوط النظام السابق أدى إلى عودة أعداد من السوريين، فيما لا يزال عدد كبير متردداً بسبب غياب فرص العمل والخدمات الأساسية داخل سوريا"، واعتبر أن "رفع قانون قيصر قد يخفف الضغط الدولي عن لبنان في ملف اللاجئين، في ظل تغير أولويات التمويل الدولي، كما قد يسهم في خلق فرص عمل داخل سوريا تشجع على العودة، مع التأكيد أن الملف يبقى معقداً من الناحية القانونية والدبلوماسية".
اقتصادياً، لفت حلو إلى أن "العقوبات المفروضة سابقاً على سوريا شكلت عائقاً أمام مشاريع تعاون إقليمي، ولا سيما في قطاع الطاقة"، موضحاً أن "رفعها قد يفتح المجال أمام إدماج سوريا في مشاريع إقليمية، سواء كممر أو كمركز توزيع، مما قد يتيح للبنان الاستفادة من هذه الترتيبات في حال اندماج سوريا مجدداً في الاقتصاد الدولي"، وختم حلو بالتأكيد أن "نجاح المرحلة الجديدة في سوريا يبقى مرتبطاً بالمصالحة الداخلية وبناء دولة جامعة"، محذراً من "أخطار الإقصاء السياسي أو المجتمعي"، ومشدداً على "ضرورة دمج مختلف المكونات السورية في مؤسسات الدولة لتجاوز حاجز الخوف" وضمان استقرار طويل الأمد"، معتبراً أن "رفع العقوبات يشكل فرصة، لكن نتائجها ستبقى مرهونة بمسار الإصلاح الداخلي وطبيعة الترتيبات السياسية المقبلة".
من جهته رأى الباحث في الاقتصاد السوري زياد أربش أن "رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وفي مقدمها (قانون قيصر)، يمكن أن يشكل فرصة اقتصادية مهمة، شرط أن يترافق مع إصلاحات داخلية جدية، محذراً من أن غياب هذه الإصلاحات سيؤدي إلى هدر أي مكاسب محتملة"، وأوضح أربش أن "الأثر الاقتصادي الأبرز يتمثل في عودة رؤوس الأموال السورية المهاجرة، وأموال المغتربين، إضافة إلى رؤوس الأموال العربية، سواء عبر إنفاق مباشر أو استثمارات منتجة داخل سوريا، إلى جانب عودة التحويلات المالية وتنشيط حركة التجارة البينية، ولا سيما مع لبنان والدول المجاورة".
وأشار الباحث في الاقتصاد السوري إلى أن "المرافئ والمعابر اللبنانية البرية والبحرية والجوية تلعب دوراً محورياً في خدمة الاقتصاد السوري"، لافتاً إلى أن "العبور عبر لبنان يبقى في المرحلة الراهنة أقل كلفة من مسارات بديلة عبر دول أخرى، خصوصاً في ما يتعلق باستيراد المواد الأولية والسلع الوسيطة والتجهيزات الصناعية للمشاريع المنفذة في سوريا".
في ما خص الجانب الاستثماري اعتبر أربش أن "القطاع المصرفي السوري لا يزال يواجه صعوبات بنيوية في ظل غياب الاندماج الكامل مع النظام المالي العالمي"، موضحاً أن "المصارف السورية تفتقر إلى شبكة مصارف مراسلة دولية فاعلة، مما يحد من قدرتها على تمويل المشاريع الكبرى أو إدارة التحويلات الخارجية"، وفي هذا الإطار قال إن "المصارف اللبنانية، على رغم أزمتها المالية، لا تزال مرتبطة بالنظام المصرفي العالمي، ما يتيح لها لعب دور الوسيط المالي في تمويل مشاريع تنفذ داخل سوريا، سواء عبر فتح الاعتمادات المستندية أو إدارة عمليات الدفع والتحويل".
حول ملف الطاقة أوضح أربش أن "رفع العقوبات قد يسهل نظرياً تنفيذ مشاريع مرتبطة باستجرار الغاز والكهرباء عبر سوريا، إلا أن الشبكات السورية نفسها تحتاج إلى إعادة تأهيل، ما يجعل التنفيذ الفعلي مرتبطاً بإصلاح البنية التحتية وليس فقط برفع القيود القانونية"، وشدد على أن "رفع العقوبات وحده لا يكفي، وقانون قيصر مسؤول عن نسبة كبيرة من الاختناقات الاقتصادية، لكنه ليس السبب الوحيد"، مؤكداً أن "أي انفتاح اقتصادي لن ينجح من دون مكافحة الفساد، وإعادة بناء المؤسسات، وتفعيل أجهزة الرقابة، وإصلاح النظام المصرفي".
في ما يتعلق بحركة الترانزيت توقع أربش أن "يؤدي رفع القيود إلى خفض كلفة النقل وزيادة حركة الصادرات، ليس فقط بين سوريا ولبنان، بل أيضاً مع العراق ودول الخليج، بما يعيد لسوريا دورها كممر لوجيستي إقليمي".
في الشأن الاجتماعي رأى أن "ملف عودة اللاجئين يرتبط مباشرة بإعادة تأهيل البنية التحتية"، مشيراً إلى أن "توفير الكهرباء والمياه والخدمات الأساسية يشكل شرطاً أساساً لأي عودة مستدامة"، وكد أربش أن "رفع العقوبات يشكل فرصة أخيرة"، داعياً إلى "وضع خطة اقتصادية واضحة تقوم على التشغيل، والتنمية الصناعية والزراعية، والتحول التكنولوجي"، معتبراً أن "غياب الأفق الاقتصادي سيدفع الشباب إلى مواصلة الهجرة، حتى في حال تحسن الظروف السياسية".
اندبندنت عربية
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=110&id=203962