لا بد وان نستغرب شكوى
العديدين من وجود سيولة هائلة من تزايد أسعار النفط وصعوبة في استيعابها سابقاً والآن فجأة تعاني الأسواق العالمية من
نقص السيولة مما يستدعي قيام المصارف المركزية بضخ سيولة إضافية لإنعاش الأسواق.
وتعود أزمة العقارات الأمريكية إلى منتصف عام 2007. ومنذ ذلك التاريخ نشهد على
جميع الأصعدة تقهقراً ملحوظاً في الحياة الاقتصادية العالمية.
تصر بعض الدول العظمى
على أنها تولي أهمية كبرى لدعم المساعدات من خلال الأمم المتحدة ولكنها تنسى أو
تتناسى أن زيادة هذه المساعدات سنويا لم تعد تعوض بأي شكل من الأشكال زيادة أسعار
المواد الأولية التي جعلت تلك المساعدات تستنفذ خلال فترة قصيرة جداً.
يطلب من الدول النامية باستمرار
مزيداً من الانفتاح وتشجيع التجارة الحرة لتأمين فاعلية عالمية أكبر. ولم يعر أحد
انتباهاً إلى أن معظم تلك الدول ليست مصدرة أو أنها أمضت عقوداً في تجميع القطع
الأجنبي المتوافر لديها، فكانت النتيجة أن معظم تلك الدول تعاني من نزف مستمر في
القطع الأجنبي المتراكم لديها مما يعني استكمال تحضيرها في المستقبل القريب لقبول
شروط الدعم أو المساعدة أو الإقراض.
فما الذي يحدث؟ وبماذا
يختلف الوضع الحالي عن أي أزمة سابقة؟
السلاح الأخطر:
العملة العالمية
اعتقد البعض أن أصحاب
القرار قد تعلموا من دروس النمور الآسيوية في نهاية القرن الماضي وأزمة العقارات
التي صاحبتها. وتوقعوا أن الأدوات الجديدة التي لجؤوا إليها وأن الإجراءات
والاحتياطات المتبعة في إدارة المخاطر تكفي للحد من آثار أي أزمة جديدة أو تمنع
انتشار الآثار من الدولة "الموبوءة أو المصابة بالأزمة" إلى الدول
الأخرى. وزاد في هذه القناعات توصيات بازل وما رافقها من توصيات وإجراءات شملت
معظم بنوك العالم وخاصة في الدول المتقدمة.
كما بذلت دول مثل
الولايات المتحدة جهداً كبيراً لمنع استخدام نظامها المصرفي أولاً والنظام العالمي
عموماً من قبل الدول أو الجهات التي تدعي هذه الدول أنها تشكل خطراً على أمنها
بالمعنى العريض للكلمة. ورفضت الولايات المتحدة والسائرين على هديها أية دفوعات أو
حجج مقدمة للتحقق من عدم صحة الاتهامات. ويعلم الجميع جهاراً أو ضمنياً أن هذه
الاتهامات قد بنيت على أسس سياسية محضة. وهكذا انطلقت الجوقة المتناغمة من مختلف
الجهات المعنية بهذا التوجه للعمل على تعميم هذا النوع من العقوبات التي تطبق خلال
السنوات الأخيرة لأول مرة في التاريخ. ويبدو أن هناك إغفال متعمد للمخاطر الكبيرة
التي يمكن أن تنجم عن هذه التوجهات العالمية لأن استخدام الدولار كسلاح سيكون الخطر
الأقسى على الإطلاق.
بالعودة إلى التاريخ نجد
أن وظائف العملة (قياس ودفع وادخار) كانت محصنة في مرحلة العملة السلعية (الذهبية
أو الفضية) بكونها تحمل قيمتها ويمكن لصاحبها في حال تباينت قيمتها الوجهية مع
قيمتها السلعية بيعها معدنا والحصول على العملة التي تناسبه. ولكن صعوبة تخزين
ونقل النقود المعدنية في البداية وعدم كفاية المعادن الثمينة اللازمة لسك النقود
في وقت لاحق، غيرت ملامح السياسات النقدية مع التاريخ ودفعت أصحاب حقوق السك
والحكومات إلى إطلاق ما يسمى الأوراق الائتمانية الموجودة حالياً بين أيدينا. وكان
مفهوم الائتمان مستنداً في أساس إطلاقه إلى قبول الحكومات المعنية بهذه النقود
لتسديد الضرائب والرسوم المتوجبة على صاحب العلاقة (وهي الميزة الأساسية التي تشكل
جوهر القبول العام لهذه النقود).
استحوذت الولايات على سلاح
جديد بعد الحرب العالمية الثانية من خلال معاهدة بريتون وودز التي أقرت بالدولار
عملة عالمية لها ميزة "القبول العام" وتؤدي وظائف العملة أعلاه، وتقاس
بالنسبة إليها جميع العملات الأخرى. أما الدولار فيقاس بالذهب ويمكن لمن يحمله من
الدول تحويله إلى ذهب عند الطلب.
جاءت الصدمة الأولى
للعالم في عام 1971 عندما منعت الولايات المتحدة الأمريكية تحويل الدولار إلى ذهب
وأقرت مبدأ تعويم العملات. وأدى التعويم إلى خسائر وتقلبات غير مسبوقة في أسواق القطع
ما شكل مصدر دخل مغر للمضاربين على حساب باقي المتعاملين. ومع ذلك أبقت الولايات
على وظائف العملة الواردة في أي مرجع اقتصادي ولكنها بدأت تدريجياً بنسف هذه
المسلمات تدريجياً حسب ما سيرد أدناه.
يتزود حامل العملة في
الاقتصاد تلقائياً بوظائفها الثلاث. ولكن الولايات المتحدة بدأت منذ السبعينيات
بالحد من وظيفة الدفع من خلال منع بعض الدول أو الجهات من المرور عبر النظام
المصرفي الأمريكي وهو ما حدث مع العديد من الدول التي كانت أرصدتها مهددة في حال
مرورها بنيويورك. ومع كل ذلك كان يحق لهذه الدول أو الجهات الإبقاء على حساباتها
الدولارية خارج الولايات بحيث كانت وظائف العملة مستمرة تحت ما يسمى عمليات
اليورو-دولار والتعامل به بالأنظمة المصرفية الناشطة خارج الولايات المتحدة
الأمريكية.
فوجئ العالم في بداية هذا القرن بعد أحداث أيلول
بالميثاق الوطني الأمريكي USA Patriot Act
الذي لم يكتف بالإجراءات
والعقوبات ضد الدول التي لا تنضوي تحت الجناح الأمريكي وإنما تخطاها لإجراء
تهديدات لأي مصرف أو دولة لا تقوم بإغلاق الحسابات المصرفية للمعاقبين بأمر أمريكا
أو لأي جهة يثبت أنها تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق هذه الجهات. وأغرقت
المصارف العالمية بسيل من الرسائل والتهديدات وطلب من كل منها أن يعيد إرسال
التهديد لكل من المصارف التي يتعامل معها بحيث تصبح الأمور وكأن هناك خطر محدق
بجميع الأطراف المعنية. وأصبح الجميع يعيش على إيقاع هلوسة أصبح فيها ضباط الإرتباط
لعمليات غسل الأموال هم أصحاب القرار الحقيقيين في أي عملية أو مع أي عميل جديد.
وكلما امتلك المصرف مصالح في الولايات الأمريكية أصبح موظفوه بشكل تلقائي خاضعين
للقانون الأمريكي لأن التهديدات واضحة تجاه من لا يتعاون. وأصبحت بذلك حقيقة كون
القوانين أو التوصيات الأمريكية ملزمة للآخرين أكثر وضوحاً وبالأخص في الدول أو
المصارف التي أعطت أولوية لمصالحها الآنية على الطويلة الأمد أو على المحافظة على
أسس الاقتصاد. وبذلك نجد أن الفرق كبير بين مفهوم مصادرة دولة لأرصدة دولة أخرى
موجودة لديها أو منعها من استخدام مصارفها، وبين مفهوم السعي لإجبار جميع المصارف
على إغلاق الحسابات المفتوحة بعملة الدولة مطلقة العقوبات مستفيدة من كون هذه
العملة هي الأكثر انتشاراً بالإكراه منذ بريتون وودز حيث أن معظم التعاملات
والإدخارات تتم بها فضلاً عن كون تسعير المواد الأولية مثل البترول وغيره يتم من
خلالها.
صحيح أن استخدام هذا
السلاح يقتصر حالياً على الولايات الأمريكية، ولكن الخطر الناجم عن استخدام هذا
النوع من الأسلحة يشكل خطراً حقيقياً للأسباب التالية:
إن رفض الولايات المتحدة قبول الدولارات أو التعامل بها من قبل الدول "المغضوب
عليها" امريكياً ينسف أهم ميزة ارتكزت عليها مفاهيم العملة الائتمانية (Fiat Money). وإذا كانت هذه السلوكيات
مقبولة فهذا يعني ان التوسع في استعمالها سيعيد طرح التساؤلات جدياً حول جدوى
التعامل بالعملة الائتمانية مهما كان نوعها أو مصدرها وستنشأ تدريجياً الدعوات
للعودة إلى النقود السلعية.
يبدو أن دول العالم توافق حالياً على السلوك الأمريكي لأنه حتى تاريخه لم
يمس إلا دولا تعتبر هامشية في الحياة الاقتصادية على مستوى العالم. ولكن المشكلة
الحقيقية تكمن في كون الموافقة لأمريكا على استخدام هذا السلاح تعتبر مقدمة لشرعنة
استخدامه من قبل مختلف الدول المصدرة للعملات العالمية في وجه جميع الدول الأخرى
التي لا تملك عملات مقبولة عالمياً. وبذلك تصبح الضغوط أكثر سهولة من شن أي حرب
ولكنها في الحقيقة ليست فاعلة ولا تؤثر إلا في وجه الدول الضعيفة. وفي حال
استخدامها في وجه دول أكبر وأقوى فستكون الكارثة أكبر بكثير.
استخدام السلاح التقليدي أو النووي أو غيره محدود الآثار ولو كان قطر
الإصابة كيلومترات. أما سلاح العملة العالمية بالطريقة أعلاه ستكون آثاره أكبر
بكثير في حال استخدامه على صعيد واسع لأن انتشاره سيكون عنكبوتياً حسب المصالح
المتعلقة بالدولة الهدف.
في حال اتفاق معظم الدول العالمية المصدرة لعملة عالمية على منع التعامل
بعملاتها لدولة ما فما الذي ينتظر سكانها؟ أو ليس في ذلك تجويع مقصود وإفقار
للشعوب.
يضاف إلى كل ما سبق آلية
التعامل في نظم الدفع الإلكترونية العالمية حيث تجري عمليات التقاص لكل من العملات
العالمية في الدول المصدرة لها، إضافة إلى التقاص الإلكتروني لمختلف بطاقات
وعمليات الدفع الإلكتروني عبر مجموعة من النظم المحدودة والتي تسيطر الولايات
المتحدة على غالبيتها (فيزا، ماستر كارد، أميريكان إكبرس...وغيرها). ويسمح كل ذلك
للدول ذات النفوذ في هذا المجال وخاصة الولايات المتحدة بالتحكم بشكل كبير في مصير
الدول المستخدمة لهذه النظم، لأنه بمقدورها استبعاد مختلف الدول "المغضوب
عليها" من هذه المنظومات وبالتالي حرمان مختلف المؤسسات المالية العاملة فيها
من إمكانية التعامل بهذه المنظومات مما يؤدي إلى:
تعطيل أو شلل في حركة وتمويل التجارة الخارجية عبر المؤسسات الرسمية.
دفع البلد المعني قسرياً للتعامل عن طريق مؤسسات مالية في بلدان أخرى وما
سيرافق ذلك من صعوبات وعمولات إضافية
استحالة تأمين منظومة معلومات مالية ومصرفية تسمح بتجميع المعلومات عن
حقيقة التدفقات المالية وبالتالي استحالة التخطيط السليم أو التمهيد للتخطيط السليم في المستقبل
إجبار البلدان المعنية على العودة إلى التعامل بالأوراق النقدية وضياع
الجهود التي بذلت لوضع أنظمة دفع تمنع التعاملات غير السليمة وتسمح بتتبع مختلف
التعاملات المشبوهة.
وجميع هذه الممارسات
تتعارض تماماً مع ما ترغبه أو على الأقل ما تعلنه كل من هذه الدول والولايات
المتحدة وكذلك الدول المتقدمة حول ضرورة التخلص من التعاملات الكثيفة بالأوراق
النقدية وضرورة الاندماج بمنظومة الدفع العالمية وتركيب مختلف برامج كشف التعاملات
المشبوهة. ورغم جميع المخاوف التي ترافق هذا النوع من الاستبعاد القسري للدول
المعنية بهذه التهديدات تستمر الولايات المتحدة بالسلوك ذاته لأنه كما يبدو تعطيها
هذه الممارسات الغريبة والمريبة عدداً كبيراً من المكاسب منها نفوذاً أكبر بكثير
مما يمكن أن تحصل عليه بالنفوذ العسكري كما أنها تعوضها التكاليف التي يمكن أن
تنشأ عن هذه الممارسات وتمهد لها الطريق لفرض شروط قسرية أشنع بكثير مما يمكنها
فعله في ظل ممارسات نقدية ومصرفية سليمة.
يدفعنا كل ذلك للمطالبة
بالسعي للحصول على قرار ملزم من الأمم المتحدة لمنع استخدام سلاح النقود لأنها لا
تشكل خطراً على فرد أو منظمة أو دولة وإنما هي سلاح تدميرياً شاملاً وعابراً
للحدود بسهولة.
بماذا تختلف أزمة
العقارات الأمريكية عن أية أزمة سابقة؟
يقصد
بمصطلح subprime القروض التي تمنح للزبائن (المقترضين) ذوي الخطر
المرتفع (أو الدخول الضعيفة). وكلنا يعلم
أنه كما زادت المخاطر أصبحت الإيرادات والأرباح مغرية أكثر. وبما أن أسهم الشركات
المصدرة لهذا النوع من الديون أصبحت مغرية ومربحة بدأت بعض الصناديق الاستثمارية
بتنويع محافظها جزئياً بالاعتماد على هذه الأسهم المعتمدة على ديون سيئة.
وتدريجياً تم تمويه حقيقة هذه الديون في سلسلة من الاستثمارات والتنويعات
المتعاقبة ولكن ذلك لم يكف لإخفاء حقيقتها وما لبثت بعد مرور عدة سنوات على هذه
البهلوانيات المالية أن كشف الأمر وكان الثمن مرتفعاً حيث يتم تسديده على حساب أولئك الذين اعتقدوا
أنهم يستثمرون في محافظ مضمونة من حيث القيمة والأرباح.
وهذه الممارسات ليست
جديدة إذ أنه بالعودة إلى فترة 1719-1720 عصفت
خلالها بفرنسا أزمة غير مسبوقة وارتفعت
ديون فرنسة إلى أكثر من 100% من الناتج القومي ووصلت قيمة بيع سند الحكومة الفرنسية إلى أقل من 25% من قيمة إصداره. بدلاً من الديون الفرنسية
القديمة،
طرحت أسهم
جديدة لشركة ميسيسيبي (التي تحتكر التجارة مع المستعمرات الفرنسية) بتشجيع
من مصرف مركزي
فرنسي تم إنشاؤه
في تلك
الفترة. وكان القصد الحصول على السيولة اللازمة للحكومة عبر
الترويج لملاءة شركة التجارة مع المستعمرات؛ واستخدمت السيولة في شراء دين حكومي
فرنسي بديل عن الدين القديم وبفائدة أقل. وهكذا تم تسويق دين سيئ (subprime) بلباس جديد بأوراق ترتكز بالأصل على دين عام
مشكوك به. تسبب
الإقبال على شراء أوراق الشركة بزيادة قيمة أوراق الدين عشرين مرة. ولكن بقيت المشكلة الكامنة في أن
أوراق المسيسيبي لم تعد قابلة للتسييل لأنها مستندة بالأصل إلى دين عام سيء
لم يكن بمقدوره في الحقيقة تسديد ما هو مستحق
عليه. وتحول
الارتفاع الذي حدث على سعر سهم المسيسيبي في 1719 إلى تناقص حاد
عام 1720 أعاد
السعر إلى ما كان عليه. والخلاصة يمكن للدين أن يتنكر بحلة جديدة ولكنه في حال كونه سيئاً فسيبقى السوء مرافقاً
له إذا لم يكن التغيير جوهريا.
يذكرنا كل ذلك
بالسياسة التي اتبعت في الولايات المتحدة في فترة 2001-2004 من قبل المصرف
الفدرالي الأمريكي ويتم
اتباعها الآن من قبل المصرف ذاته: انظر حركة الليبور في المخطط المرفق. فبعد انهيار فقاعة
تكنولوجيا المعلومات وانهيار أسعارها كان لا بد من إيجاد ديناميكية جديدة لتحريك
الأسواق خاصة وأن أحداث أيلول 2001 تلت ذلك مباشرة فكان لا بد من تخفيض معدلات
الفائدة بشكل حاد ترافق مع تنامي ظاهرة فقاعة العقارات تدريجياً. ثم جاءت ملامح
ركود جديد بعد عدة سنوات فقام المصرف الفدرالي بإعادة تخفيض معدلات الفائدة كما هو
مبين في المخطط المرفق.
وبفضل هذا النوع من
الممارسات في سوق العقارات، استطاع العديد ممن لم يكونوا يحلمون من قبل بالحصول
على السيولة اللازمة لامتلاك العقارات والمضاربة بها الاستفادة من رخص الفوائد في السنوات
الأولى ومن زيادة كبيرة بأسعارالعقارات. فكانت النتيجة أرباح مغرية دفعت بالعديد
لتقليد هذا السلوك ودفعت بالكثير من المصارف والمؤسسات المالية لاتباع هذا النوع
من القروض الذي تميز في الفترة السابقة بأرباح كبيرة مقارنة بغيره. ولكن انكشفت
اللعبة لأسباب عديدة منها:
ارتفاع معدلات الفائدة خلال السنوات الأخيرة (انظر المخطط المرفق) مما زاد في التكلفة على المقترضين
خاصة أولئك الذين اعتادوا إما على المضاربة على استمرار ارتفاع أسعار العقارات أو
على استمرار انخفاض أو ثبات معدلات الفائدة.
تباطؤ النشاط الاقتصادي الأمريكي وهبوط أسعار العقارات مما جعل الأرباح
المتوقعة أقل من الفوائد المتراكمة،
انكشاف حقيقة بعض القروض التي تميزت بتركيبة تجعل الفوائد ضعيفة في السنوات
الأولى من القرض ومرتفعة في السنوات التالية. وأدت هذه التركيبة إلى انكشاف العديد
من المقترضين المغامرين على حقيقتهم كما كشفت أن المصارف المقرضة لم تكن تهتم بما
فيه الكفاية بالتحقق من الدخل لكل من هؤلاء من المقترضين.
يصل حجم سوق العقارات
الأمريكي إلى ما يزيد عن 1.3 تريليون دولار وتصل الخسائر المباشرة حالياً بسبب هذه
الأزمة إلى 200 ملياردولار يضاف إلى ذلك أنه عندما انكشفت في عام 2007 حقيقة أن
نسبة كبيرة من المقترضين العقاريين أصبحوا متعثرين، تنبه السوق إلى المشكلة التي
لم يكن من المفترض بها أن تأخذ هذا الحجم، فلماذا هذا الهلع والخوف من انتقال
الأزمة عبر الأسواق المالية علماً بأنها ليست الأزمة الأولى التي تتعرض لها؟
علمتنا التجربة في كل
مرة أن الادعاء الدائم بتحصين الأسواق أمر مستحيل لأسباب عديدة منها:
حقيقة أن التجديد في السوق وأدواته مستمر والصراع دائم بين وضع القيود لضبط
السوق والرغبة الجامحة لدى الإنسان والمجتمعات لتجاوزها وتحقيق أرباح غير مسبوقة.
وعناد الإنسان يجعله يكابر ويراهن أنه قادر على التغلب الدائم على آلية السوق رغم
أن التجربة على الأمد الطويل أكدت عدم صحة ذلك.
التاريخ الذي أظهر أن تعويم العملات أو الصدمات البترولية أو ديون المكسيك
وغيرها أو الإثنين الأسود في الثمانينيات أو الأزمة الروسية أو النمور الآسيوية أو
الفقاعة التكنولوجية أو غيرها من الأزمات التي شهدها القرن الحالي تؤكد استحالة
إيجاد ضوابط كاملة.
ولكن نحن نعتقد أن
الأزمة الحالية تتميز عن غيرها بوجود عوامل عديدة عابرة للحدود وظواهر أقرب إلى أن
تكون عالمية من أن تكن وطنية لبلد بعينه أو إقليمية لمنطقة أو لقارة بذاتها.
وأسباب هذا الادعاء كثيرة إذ أنه بالإضافة للمسلمات المتعلقة بأن تخفيض العملة
يعني زيادة الصادرات (إن وجدت) وتخفيض المستوردات لا بد وأن نذكر ما يلي:
الخاتمة: مساوئ تسريع "ملتسة" الاقتصاد
من حق جميع الحكومات
البحث عن الربح والازدهار لشعوبها ، ولكن نتساءل عن المواضيع التالية في ظل الظروف
الحالية أو المتوقعة:
في الختام نتساءل هل
الصمت الحالي عن السياسات النقدية والاقتصادبة الأمريكية عموماً يدل على وجود
تناغم يعول فيه المعنيون على إمكانية فرض شروط وتقاسم حصص على الدول التي سيعلن إفلاسها
"بالجملة وليس بالمفرق" في الفترة القادمة؟
وهنا نذكر تأملات مالتوس
ونظريته حول أنه مع تزايد الاحتياجات وانخفاض الموارد وسوء التوزيع ستعم المجاعات
والحروب فيتم بنتيجتها "تصفية الفوائض البشرية" ويعاد تشكيل البنية
الاقتصادية "النضرة" من جديد. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل حول ما يجري
حالياً: هل هو تسريع لتطبيق نظرية توماس روبرت مالتوس، وإكراه لدول العالم على
الدخول في دوامة تصفية حسابات قسرية ستكون عواقبها على الأغلب مخيفة؟
وأخيراً في ظل تزايد أو
توقع تزايد عدد الدول التي ستتخبط اقتصادياً واجتماعياً بسبب الضائقة الاقتصادية
المتوقعة وما سينجم عنها من إضرابات ومجاعات ومشاكل وزعزعة للأمن، يحق لنا أن
نتساءل هل ستلجأ الدول "المتقدمة" (أو تلك التي تقدمت إليها في السنوات
الأخيرة) إلى زيادة هذا القلق ورفع التوترات قدر الإمكان وإيجاد التناغم الضمني (سواءً
كان مقصوداً أم لا والذي يبرر حالياً الصمت المريب عن تخفيض الدولار) فيما بينها تمهيداً
للخطوة القادمة وهي على وجهين:
الظهور بمظهر "الحنون" الذي سيقدم المساعدة للدول النائمة
(النامية) و كالمعتاد مع اشتراط استيراد منتجات البلد مقدم المساعدة واستقدام
الخبرات منه وحصرية توريد المواد الخام إليه وغيرها من الممارسات والشروط التي
تنعش البلد الواهب أكثر مما تنعش البلد الموهوب.
الحرص عند الضرورة على الحكومات "المعتدلة سلوكاً" من خلال الدعم
العسكري وبيع الأسلحة في المناطق التي قد تعاني من عدم الاستقرار ومن تمرد رعاياها
مما يعني انتعاشاً للدول "المتقدمة" المصدرة للأسلحة، وفرضاً قسرياً للأساليب
"الديمقراطية".
قد تكون النتيجة سوداوية
ولكن نأمل من خلالها التحريض من جديد على تبرئة صفحة اقتصاد سياسي مغيب منذ قرون ولا
يقبل أصلاً هذا النوع من الممارسات.
د. دريد
درغام
المصدر:
http://mail.syriasteps.com/index.php?d=160&id=226