بقلم الدكتور مدين
علي
تُعَدُّ لحظة خروج
رئيس منظمة الصحة العالمية للإعلان عن تصنيف فيروس كورونا كوباء عالميٍّ، لحظة فاصلة
في التاريخ الحديث، من وجهة نظر غالبية كبيرة من زعماء السياسة وقادة الدول والاقتصاد
العالمي، وكذلك بالنسبة لرؤساء المنظمات العالمية الإنسانية والحقوقية، الذين دقّوا
ناقوس الخطر، وسارعوا في دعوة الحكومات لإعلان حالة الطوارئ، واتخاذ الإجراءات الضرورية
كافةً من أجل مكافحة هذا الوباء الخطير. كما لم يدّخر الأطباء والمتخصّصون في الأمراض
المناعية وغرف العناية المشددة الجهد ولا الوقت اللازم والكافي، لتوضيح طبيعة الفيروس،
وآليات فتكه بالجسم، عن طريق الجهاز التنفسي، كما أسهبوا كثيراً في شرح كيفية التعاطي
العلاجي والوقائي مع الوباء.
وتُظهر إحصائيات
الإصابات والوفيات، أنَّ الخطورة الحقيقية للوباء، لا تتولد من ارتفاع نسبة احتمال الوفاة، إذ إنَّ عدد الوفيات حتى اللحظة
لا يؤكد هذا النوع من الخطورة، وعدد الوفيات من جرّاء أسباب أخرى، يوميّاً –على مستوى
الكرة الأرضية– يعادل مئات الأضعاف، وربما أكثر من ذلك بكثير، لكنَّ الخطورة الحقيقية،
تكمن في سرعة انتشار الوباء، وتسارع وتائر الإصابة بما يفوق الإمكانات الطبية، ويتجاوز
القدرات المالية والتكنولوجية للدول، ومتطلبات الدعم اللوجستي اللازم لتطويق الظاهرة،
وضبط مفاعيلها، واحتواء منعكساتها الصحية والطبية والاقتصادية والاجتماعية كافة، التي
بدا من الواضح أنه حتى الدول المتقدمة اقتصادياً
وطبياً، كدول الاتحاد الأوروبي، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، عاجزة عنها.
لكن يبدو من التطورات
الدراماتيكية لانتشار الوباء، وإعلان حالة العجز والاستسلام من قبل الدول الكبرى، واللجوء
لسلوك الخلاص الفردي، أنَّ شعوراً عالميّاً بالريبة بدأ يتنامى بإزاء كل ذلك، وأصبح
الناس على مستوى الكوكب في حالة ذهول، متسائلين عن مفهوم المجتمع الدوليّ، ومشروع الديمقراطية
الغربية ورسالتها الكونية، وحقوق الإنسان، وأجندة الألفية الثالثة للأمم المتحدة، وتفوّق
الغرب وخططه الاستراتيجية، والتخطيط لحالات الطوارئ وإدارة الأزمات، والقدرة على تأمين
الاحتياجات، وغير ذلك من المقولات والمفاهيم، وتصوراتنا الأسطورية في الشرق عن الغرب
وحضارته. ويبقى الأخطر أنها دفعت غالبية كبرى من سكان الكوكب للدخول في حالة من الاغتراب
النفسي والإنساني، متسائلين عن مغزى الوجود ومعناه.
هذا، وبصرف النظر
عن طبيعة الملابسات المركبة والحيثيات المختلفة التي لازمت انتشار الوباء، وبصرف النظر
عن الإجراءات التي قامت بها الدول والفعاليات الحكومية وغير الحكومية، يمكن القول: إنَّ سرعة انتشار الوباء في دول الاتحاد
الأوروبي، وإعلان حكوماته عن حالة العجز وعدم القدرة على القيام بالإجراءات المطلوبة بما فيه الكفاية
كماً وكيفاً، لتطويق الوباء والقضاء عليه،
في الوقت الذي نجحت الصين في استيعاب صدمة الوباء، والتعاطي معه بصورةٍ أظهرت بوضوح عبقرية النموذج الصيني وتفوقه، الذي انتقل
من مرحلة الدفاع والاحتواء إلى الهجوم، خارج حدود الصين في إيطاليا، وكذلك الأمر بالنسبة
لروسيا الاتحادية، كل ذلك يطرح بقوة كثيراً من علامات التعجب في مكان، وعلامات الاستفهام
في غير مكان، ويدفع كثيرين من الخبراء لطرح العديد من التساؤلات عن فصول المشهد القادمة، وعن المضمون الاقتصادي والسياسي
للظاهرة، ويعيدنا قليلاً لطرح الكثير من التساؤلات عن نبوءات الفلكيين الذين بشّروا
بالوباء منذ مطلع عام 2020، وتحدثوا عنه بصورة شبه مطابقة للواقع. وكذلك التساؤلات
حول الحد الفاصل بين دور الدولة العميقة التي تقود العالم وأهدافها، وبين دور قادة
الدول وزعماء السياسة الدوليين الذين يتصدرون الشاشات، ويشغلون وسائل الإعلام بتصريحات
طنانة، وضجيج إعلامي ليلاً ونهاراً، كان لكلّ ذلك دور كبير في فأرنة البشر وأرنبتهم،
وإلزامهم بمحاجرهم طوعاً وكرهاً. وقد يكون ذلك من الضرورات في الزمان والمكان بلا شك،
كأحد البدائل الاستراتيجية لتطويق الوباء والقضاء عليه، وهذا ما يؤكده الأطباء وكذلك
تجارب الدول التي حققت نجاحاً نسبياً ملحوظاً في إطار التعاطي مع الظاهرة-الوباء.
كما أنّه بصرف النظر
عن عدد الوفيات، ومساحات انتشار الوباء، وجغرافياته السياسية والطبيعية، فإن الحصيلة
السياسية حتى اللحظة لا تصب في مصلحة أوروبا ولا الولايات المتحدة الأمريكية، فقد اهتزت
صورة دول الاتحاد الأوروبي، كما اهتزت صورة
الولايات المتحدة الأمريكية بقوة في المخيال العالمي أمام ضربات كورونا الموجعة، جراء
عوامل كثيرة منها: ضعف الأداء، وعدم امتلاك القدرة على الاستجابة لمواجهة التحدي، وتنفيذ
القليل مما كان يتوقّعه كثيرٌ من مراقبي ودارسي جاهزية الغرب وخططه الاستراتيجية، على
مستوى الأمن الصحي وغير الصحي، ونماذجه في التعاطي مع الملفات وإدارة الأزمات، وعدم
مبالاة الغرب الأنغلوسكسوني تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ويبقى الأهم
والأبرز في هذا الإطار، هو مظاهر عدم التعاون بين دول الغرب، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي،
والموقف المخزي للأوروبيين والأمريكيين تجاه إيطاليا التي أبدت كثيراً من العتب واللوم،
وعادت كثيراً لاستحضار التاريخ الإيطالي، وتذكير أوروبا الحديثة بدور إيطاليا وعراقتها
وتاريخها، وفنها وإرثها، وتراثها الذي لم تبخل به على سائر جيرانها وشركائها من دول
الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي وجّهت فيه الكثير من الثناء وبطاقات الشكر والامتنان
لدولة الصين وشعبها، وكذلك بالنسبة لروسيا الاتحادية.
لا شك في أنَّ الوقت
مبكّر لتحديد المضمون السياسي والاقتصادي لما يجري على مستوى الكرة الأرضية، بواسطة
كورونا، وعن طريقه، رغم العشرات والمئات من التصريحات والتلميحات، وكذلك النبوءات والتنبؤات
حول آثار وتأثيرات هذا الوباء على المستوى المحلي والعالمي. إذ ذهب كثيرون، ممن أبدوا
آراءً وطرحوا نظريات واقتبسوا كثيراً من المضامين ذات الصلة، بمنطق تبشيري صرف، يؤكد
على أن العالم دخل مرحلة انعطاف كبرى في مضامين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي العلاقات
الدولية والتحالفات الاستراتيجية والمعادلات النوعية، التي بها وعن طريقها يجري إعادة
توزيع القوة شكلاً ومضموناً في بنية النظام الدولي. لكن ما يجب أن يؤخذ بالحسبان هو
الموقف الصامت/الهادئ للصين، واللامبالي للولايات المتحدة الأمريكية، هذا من جانب،
وحالة صرف النظر حتى هذه اللحظة، عن مقدمة حرب جرثومية/بيولوجية تتسبب بمأساة إنسانية
كبرى، في زمن القانون الدولي الإنساني، وأجندة التنمية للألفية الثالثة، إذ لم تتطرق
أي جهة لمسألة تحديد الأسباب، أو تحميل المسؤوليات، عن جريمة افتعال وباء غيّر مجرى
حياة الناس مادياً ومعنوياً، بل تم التعاطي مع الجريمة بصورةٍ تجاهلت الكثير من عملية
تحديد الدور، وتحميل المسؤوليات إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ما يعني أن ما يجري ليس بريئاً، كما أنه
ليس بعيداً عن إرادة القوة للدولة العميقة التي تقود العالم، والتي وقفت تاريخياً وراء
كثيراً من التطورات والأزمات التي زادت من معاناة البشر ومآسيهم، كأزمات الغذاء والدواء
وأزمات أسعار النفط والطاقة، وإثارة مئات النزاعات حول العالم، والعمل لإسقاط النظم
وتفكيك كثيرٍ من الدول والإمبراطوريات، وإشعال الحروب وعسكرة الاقتصاد العالمي.
وفي الأحوال كافة،
لا يوجد حتى اللحظة ما يؤكد على أنّ انتشار وباء كورونا سيتسبب في إحداث تحولات عميقة
في بنية النظام العالمي، تبشّر بعالم جديد، تغيب عنه مظاهر العنف والقوة التي يحيلها
بعضهم للنفوذ الكبير لرأس المال، وهيمنة النظام الرأسماليّ ومنطق البلطجة الأمريكية،
بمعنى أنّه لا أمل في انبثاق نظام جديد يتغير فيه تموضع مراكز توزيع القوة على المستوى
العالمي. فالمعطيات الراهنة والتطورات الجارية لم تنضج بعد إلى مستوى حقيقي يمكن أن
يساعد في إحداث تحولات عميقة في بنية النظام الدولي. ما يعني أن العالم الراهن سيبقى
في الأفق المنظور مأسوراً ومحجوراً، ومُداراً بأحكام قانون القوة والخوف ومقتضيات المصالح
الاستراتيجية لمكونات السلطة الدولية العميقة، التي تقود العالم من وراء ستار، وتحدد
قواعد اللعبة الاستراتيجية عن طريق إعادة توزيع المصالح، وإعادة البناء والهيكلة للتحالفات
الاستراتيجية للدول العظمى، ومن ورائها الدول الإقليمية الكبرى. وأما الجديد فهو المزيد
من الأرنبة للمخلوقات البشرية، واختزال المضمون الإنساني لها، وتحويلها إلى وحدات بيولوجية
استهلاكية مشغولة بأمنها وغذائها، لا سيما شعوب البلدان المتخلّفة التي لا تأخذ بأسباب
العلم، ولا تنصاع لقوانين الحكمة في السياسة.
|