سيرياستيبس-خاص:
نشرت أمس كلية لندن
للاقتصاد، وهي أحد أعرق الجامعات البريطانية والأوروبية، تحقيقاً صحفياً للزميل زياد
غصن باللغتين العربية والانكليزية عن التأثيرات السلبية للعقوبات الغربية على الصناعات
الدوائية السورية..
التحقيق كما وصفه
الزميل غصن مجرد محاولة إعلامية لا أكثر لمخاطبة الرأي العام الأوروبي عبر واحدة من
أهم جامعاته لكشف حقيقة عقوبات دوله على سورية، وتأثيرها على حياة السوريين ومعيشتهم.
خاصة في ظل النقاش الدائر حالياً في دوائر القرار الأوروبي إمكانية رفع العقوبات المفروضة
على سورية،
وقد كتب التحقيق
بلغة بحثية وثقت بالبيانات والأرقام وبعض الشهادات الهامة من أصحاب الاختصاص، وهو ما
تحتاجه الدولة في معركتها الحالية لرفع العقوبات الظالمة بحق شعبها ومؤسساتها.
وفيما نص التحقيق
المنشور: كيف
تؤثر العقوبات الاقتصادية سلباً على القطاع الصحي في سوريا: الصناعات
الدوائية نموذجاً
زياد غصن
تدخل العقوبات الغربية
على سوريا هذه الأيام عامها العاشر. عقوبات تجد نفسها أمام ثلاثة خيارات رئيسية تفرضها
تجاذبات السياسة الدولية. الخيار الأول يتمثل في الاستجابة للأصوات المطالبة بالرفع
الكامل غير المشروط لتلك العقوبات، بغية مساعدة الحكومة السورية على مواجهة الصعوبات
التي تعيق عمل القطاع الصحي، بما في ذلك الخطر الذي بات يشكله انتشار فيروس كورونا.
أما الخيار الثاني فيكمن في استمرار هذه العقوبات، ودخولها مرحلة جيدة من "الخنق
الاقتصادي" مع بدء تنفيذ قانون سيزر الأمريكي الذي يشدد العقوبات على سوريا، والمتوقع
في شهر حزيران القادم. ويتمثل الخيار الثالث وفق ما يجري تداوله حاليا بالرفع الجزئي
المشروط لبعض تلك العقوبات، وبشكل يضمن تحقيق منفعة إنسانية للشعب السوري بشكل رئيسي.
وأياً كان الخيار،
الذي يمكن أن تسلكه العقوبات خلال الفترة المقبلة، فإن معظم الآراء تتفق على أن السوريين
المقيمين في الداخل هم الذين تحملوا القسم الأعظم من الفاتورة المترتبة على معظم تلك
العقوبات، وإن كانت هناك مؤسسات أو أفراد محددين جرى استهدافهم مباشرة بالإجراءات،
والتي تصر الحكومة السورية على أنها أحادية الجانب وغير قانونية، في حين تنظر إليها
حكومات غربية من نافذة معاقبة الحكومة وممارسة ضغط سياسي وشعبي عليها.
في مناقشة هكذا ملف،
وبعيداً عن الأهداف والمبررات السياسية، فإن تتبع تأثير بعض هذه العقوبات على الاحتياجات
الأساسية للسكان، من غذاء ودواء وغير ذلك, والتي تضررت بشكل كبير أصلاً بسبب ظروف الحرب،
يمكن أن يساعد في إجراء تقييم حقيقي لأثر تلك العقوبات على المستوى الشعبي، لاسيما
وأنه في جميع الحالات التي طبقت فيها العقوبات، سواء بقرار أحادي الجانب أو عبر مظلة
مجلس الأمن الدولي، كانت الشعوب هي المتضرر الأكبر... وربما الوحيد أيضاً.
وبالنظر إلى الهاجس
الصحي، الذي أصبح اليوم مسيطراً على أولويات الدول والحكومات بفعل تهديد فيروس كورونا،
فإننا مناقشتنا لواقع العقوبات الاقتصادية على سوريا ستكون من خلال رصد تأثيرها على
قطاع الصناعة الدوائية السورية في السنوات الماضية. ففي الوقت الذي كانت فيه هذه العقوبات
تعلن استثنائها القطاع الصحي، كانت إجراءاتها العملية تلاحق كل ما له علاقة بتطوير
هذا القطاع وتأمين احتياجاته.
*كماشة
الحرب والعقوبات
تصنف الصناعات الدوائية
على أنها من بين الاستثمارات الأكثر نمواً ونجاحاً في سوريا خلال العقدين اللذين سبقا
نشوء الأزمة، إذ لم تكد تمضي أربع سنوات على السماح للقطاع الخاص تأسيس مصانع لإنتاج
الدواء في العام 1987 حتى وصل عدد المعامل المرخصة والمستثمرة إلى أكثر من 28 معملاً،
سرعان ما عاودت الارتفاع بعد سنوات قليلة ليصل عددها إلى نحو 44 معملاً، ثم إلى 56
معملاً في العام 2006، وإلى نحو 70 معملاً مطلع العام 2011، والذي دخلته بمؤشرات اقتصادية
مرتفعة، حيث منتجاتها تغطي ما نسبته 93% من احتياجات السوق المحلية، البالغ حجمها آنذاك
وفق تقديرات رسمية نحو 400 مليون دولار، تتوزع على 350 مليون دولار إنتاج محلي، وما
بين 40-50 مليون دولار مستوردات خارجية، هي غالباً عبارة عن أدوية سرطانية ولقاحات
وغير ذلك من الأدوية غير المنتجة محلياً والمقدمة غالباً بشكل مجاني للمرضى، هذا إضافة
إلى زيادة صادرات البلاد من الدواء لتصل إلى أسواق أكثر من 44 بلداً حول العالم.
مع تحول الأحداث
تدريجياً في سوريا إلى حرب كارثية أتت على أربعة عقود من التنمية، وجدت الصناعة الدوائية
نفسها بين فكي كماشة، فهي من جهة تعرضت كباقي المنشآت الاقتصادية والخدمية الموجودة
في البلاد إلى أضرار متباينة الحجم، طاولت أبنيتها وتجهيزاتها وخطط إنتاجها، الأمر
الذي تسبب بخروج أكثر من 19 معملاً عن الخدمة سرعان ما عاد معظمها تدريجيا للعمل مع
استقرار الأوضاع الأمنية، والتي ساعدت كذلك في تشجيع مستثمرين آخرين للحصول على تراخيص
إنشاء معامل جديدة خلال العامين الأخيرين، ليصل إجمالي عدد المعامل المرخصة مع نهاية
العام 2019 لنحو 92 معملاً ، إلا أنه عملياً ليس هناك سوى عدد قليل من المعامل تعمل
بطاقتها الإنتاجية الكاملة بفعل إفرازات الحرب والعقوبات.
ومن جهة ثانية فإن
العقوبات الاقتصادية، التي فرضت بشكل تدريجي على البلاد منذ منتصف العام 2011، تركت
هي الأخرى تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على هذه الصناعة لجهة الأصناف المنتجة
ومصادر موادها الأولية وأسعارها، والتي زادت في آخر قرار صدر عن وزارة الصحة قبل أكثر
من عامين بنسبة 50%، وتالياً فإن كثير من الأسر السورية بات عليها في حالات معينة المفاضلة
بين أولوية الإنفاق على تأمين الطعام لأفرادها أو الإنفاق على شراء الدواء، والذي لم
تكن نسبته تتجاوز من متوسط إنفاق الأسرة قبل عام ٢٠١١ أكثر من 1.5%.
في التأثيرات المباشرة
تحضر عدة نقاط جوهرية أسهمت بحسب الدكتورة رجوة جبيلي معاون وزير الصحة السابق والأستاذة
الجامعية في "نقص بعض الأدوية، وبشكل خاص أدوية الأمراض المزمنة كأدوية القلب
والضغط والسكري، كما أن تغطية حاجة السوق انخفضت إلى أقل من ٧٠% أثناء الحرب".
ومن أبرز تلك النقاط ما يتعلق بالإنتاج الدوائي واستمراريته، إذ أن العقوبات عرقلت
بحسب رأي الدكتور زهير فضلون رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية "تموين السوق
السورية بالمواد الأولية" من خلال التحديات والصعوبات التي فرضتها تلك العقوبات،
والتي أدت إلى "امتناع الشركات المتعددة الجنسيات عن التعامل مع الشركات السورية،
ارتفاع أسعار المواد الأولية بفعل زيادة تكاليف الشحن ورسوم التأمين واحتكار المواد،
اشتراط التسديد المسبق من قبل شركات الشحن مما يعرض الشركات السورية لخسائر كبيرة في
حال نكوس الشركة المصدرة عن شحن البضاعة، وتحديد طريق الاستلام للبضائع عن طريق بيروت
فقط لانتفاء استخدام مرفأي اللاذقية وطرطوس ومطار دمشق، مما أضاف عبئاً مالياً وإدارياً
على الشركات المستوردة". وهذا أيضاً ما حاولت الدكتورة جبيلي تبسيطه بقولها إنه
إضافة إلى بقية التحديات "جاءت العقوبات
لتمنع استيراد المواد الأولية الفعالة والمساعدة، وبعض مواد التعبئة والتغليف التي
لا تصنع محليا كالفيالات والامبولات وغيرها. وكذلك الكواشف المخبرية، وبشكل خاص المواد
المرجعية التي تستخدم لفحص جودة ونقاء الأدوية، هذا فضلاً عن تأثير العقوبات على التعاملات
المصرفية وتحويل الأموال، ورفض عدد كبير من الشركات الموردة للمواد ومستلزمات الانتاج،
كقطع التبديل والاجهزة والمواد المخبرية، التعامل مع المعامل الوطنية".
كل هذا أدى إلى حدوث
تأثيرات سلبية أثرت بصورة مباشرة على تموين السوق المحلية بجميع الأصناف المطلوبة للسياسة
العلاجية. وهذه التأثيرات يمكن حصرها بثلاث نقاط أساسية هي: ارتفاع تكلفة استيراد المواد
الأولية عدة مرات، تأخر وصولها واستثمارها في العملية الإنتاجية، وتعذر استيراد بعض
المواد الأولية المستخدمة في الصناعة الدوائية والاضطرار في ضوء ذلك إلى البحث عن بدائل
أخرى، وهذا أيضاً ما ينطبق على "عدد كبير من الأدوية النوعية كأدوية السرطان وزرع
الكلية، والتي كانت تستورد من شركات أوروبية، امتنعت جميعها عن توريد هذه الأدوية مما
أدى لاستيراد بدائل لها من مصادر قد تكون أحياناً غير معتمدة دوليا.." تقول الدكتورة
رجوة جبيلي.
*سحب
الامتيازات
وكان من الطبيعي
عندما يصل الأمر بالعقوبات إلى مرحلة وقف تصدير مستلزمات العملية الإنتاجية، أن تسحب
الشركات الأجنبية امتيازاتها الممنوحة إلى 58 شركة دواء سورية، كانت تنتج بموجب تلك
الامتيازات أصنافاً تبلغ نسبتها نحو 8% من مجمل الأصناف المنتجة محلياً. وهي كما يؤكد
الدكتور فضلون "أصنافاً نوعية تدخل في صميم السياسة العلاجية السورية. حيث كانت
الشركات المانحة للامتيازات شريكة في الإنتاج وتوريد المواد الأولية ورقابة المنتج
النهائي. ونتيجة إلغاء الامتيازات الأجنبية الممنوحة اضطرت الشركات السورية إلى البحث
عن مصادر أخرى لتـأمين المواد الأولية اللازمة لإنتاج الأصناف المنتجة سابقا بترخيص
أجنبي".
تماماً كما كان الحال
مع التجهيزات الصحية، سواء تلك التي تحتاجها المعامل الدوائية المجبرة بحكم التطورات
الحاصلة في العالم على تجديد خطوط إنتاجها وتبديلها بأجيال جديدة من التكنولوجيا بفترات
زمنية محددة ، وبسبب العقوبات وجدت الصناعة الدوائية نفسها أمام استحالة تطبيق هذا
التجديد، أو صرف مبالغ طائلة لتأمين هذه المعدات بطريقة تجنبها المصادرة في طريقها
أو من مصادر أخرى غير الصانعة لها. وينطبق ذلك أيضاً على التجهيزات التي تحتاجها المؤسسات
الصحية الأخرى كالمستشفيات مثلاً على اختلاف تخصصاتها، والتي وجدت نفسها عاجزة عن توفير
ما تحتاجه من تجهيزات وقطع تبديلية وترميم ما دمرته الحرب، وذلك جراء ارتفاع ثمن هذه
التجهيزات نتيجة انخفاض سعر صرف العملة المحلية وارتفاع تكاليف الشحن وغيرها بنسبة
تصل إلى أكثر من 50% هذا في حال تم السماح بتوريد تلك التجهيزات إلى سوريا، وليكون
البديل الثاني في حال عدم القدرة على الاستيراد من اوروبا الاتجاه نحو دول أخرى متواجد
معظمها في آسيا، أو الالتفاف على العقوبات وشراء تلك الآلات وقطعها التبديلية عبر حلقات
وسيطة وبتكلفة تكون غالباً مضاعفة وفق ما يؤكد مدير مشفى خاص. إنما في كلا الحالتين
فقد عجزت المؤسسات الصحية خلال الفترة الماضية عن تحديث كامل تجهيزاتها وبنيتها التحتية
في ظل تأثيرات العقوبات المباشرة وغير المباشرة، والحاجة إلى مبالغ كبيرة جداً، وهذا
ما دلت عليه إشارة منظمة الصحة العالمية وندائها بتوفير نحو 71 مليون دولار لمساعدة
سوريا لمواجهة فيروس كورونا، حصلت منه المنظمة حتى الآن مبلغ 1.25 مليون دولار، وذلك
وفق تقريرها حول سوريا والصادر بالتعاون مع أوتشا في 25 آذار الماضي.
وكما أن الاستيراد
يواجه صعوبات كبيرة، فإن التصدير الدوائي لم يكن بأفضل حال، إذ تشير التقديرات الرسمية
إلى تراجع صادرات المعامل الدوائية بفعل العقوبات الخارجية لتسجل ما نسبته 10% فقط
من إجمالي صادراتها المسجلة في العام 2010، والتي قدرت قيمتها آنذاك بنحو 220 مليون
دولار، بحيث تراجع عدد الدول المستوردة للدواء السوري من نحو 44 دولة قبل ٢٠١١ إلى
حوالي 10 دول حالياً، مما يعني أن المعامل الدوائية تخسر سنوياً ما يقرب من 198 مليون
دولار، وهي عائدات كان يمكن توظيفها في البحث والتطوير، وتمويل مستورداتها لاسيما في
ظل النقص الحاصل في القطع الأجنبي، وتعويض ما تفقده جراء السعر الإداري المركزي الذي
تفرضه وزارة الصحة، حيث يؤكد أصحاب المعامل الدوائية أن 80% من الأدوية المحلية مسعرة
وفق سعر الصرف الرسمي المحدد بنحو 437 ليرة للدولار الواحد لموادها الأولية والتي يقومون
باستيراد معظمها وفق سعر الصرف الموازي، ورغم ذلك فإن أسعارها لا تزال مرهقة للمستهلك،
الذي يعاني من انخفاض شديد في مستوى الدخل مقارنة مع معدلات التضخم المسجلة خلال أعوام
الحرب، وتحديداً في العامين الأخيرين.
*تحدي
كورونا
إن التأثيرات العامة
للحرب على الاقتصاد السوري بما فيها صعوبة تأمين احتياجات البلاد من مصادر الطاقة مع
استمرار سيطرة القوات الأمريكية على آبار النفط الرئيسية في المنطقة الشرقية من البلاد،
أدت إلى رفع تكلفة إنتاج الصناعة الدوائية إلى حدود من شأنها أن تؤدي إلى التأثير على
قدرة المستهلك على شراء الدواء. وربما هذا ما يجعل الأصناف المنتجة لا تشكل مع نهاية
العام الماضي سوى 66% من الأصناف المرخصة وفق بيانات رسمية.
ومع انتشار فيروس
كورونا مؤخراً، زاد الخناق أكثر على المنشآت الصناعية الدوائية، التي تصارع اليوم تحديات
جديدة تمثلت في ارتفاع أسعار المواد الأولية بنسبة تتراوح ما بين 20-70% بسبب توقف
بعض المعامل في الصين، وتعليق الهند والصين تصدير قسم كبير وهام من المواد الأولية،
إضافة إلى ارتفاع أجور الشحن عالمياً بنسبة تصل إلى أكثر من 300% نتيجة تقليص الشحن
عالمياً. وتبعا لما يؤكد مدير شكة دوائية خاصة فإن أجور الشحن الجوي من الصين، والتي
هي المصدر الأهم حالياً، ارتفعت من 5 دولارات إلى 15 دولار لكل كيلو غرام واحد. تطورات
تنذر كما يتوقع المعنيون في القطاع الدوائي بتراجع إضافي في الإنتاج، وتالياً حدوث
نقص في السوق الدوائية المحلية لم تشهده البلاد منذ فترة الثمانينات التي عانت خلالها
سوريا من أحداث داخلية وأزمات اقتصادية حادة والحل كما يُطرح يقوم على منحيين تحققهما
ليس بتلك السهولة، الأول يتمثل في السعي لرفع حزمة العقوبات التي تعيق استعادة القطاع
الدوائي لنشاطه الإنتاجي وخفض تكاليفه، وما يتعرض له العالم اليوم من تهديد صحي مصيري
يضغط باتجاه مثل هذا القرار. أما المنحى الثاني فهو في إعادة الحكومة السورية النظر
بالأسعار الحالية للمنتجات الدوائية لتقترب من تكلفة إنتاج الدواء، إلا أن الاستمرار
في رفع الأسعار في ضوء الضغوط المتزايدة على الدخل الشهري للفرد يؤدي إلى تحول الدواء
مع معاناة نحو 85% من الفقر وفق تقديرات الأمم المتحدة، إما إلى أولوية تتقدم على تأمين
غذاء تلك الأسر، أو إلى أولوية مؤجلة تنتظر مصدر اً جديداً من الدخل مما يعرض حياة
الناس للخطر.
|