«القرش اللي مو ببلدك لا إلك ولا لولدك»، مثل دمشقي قديم
يتحدث عن استثمار الأموال خارج البلاد نتيجة ظروف الحرب على أقدم عاصمة في
التاريخ.
واليوم نرى هجرة جديدة في سورية بعد هجرة عام 2013 بسبب الإرهاب, ولكنها
تأخذ منحى أخطر لكونها تستهدف العقول والمستثمرين السوريين، العديد من
الشباب تحدثوا عن عدم قدرتهم على تأمين مستقبلهم بسبب قلة المدخول وقوة
المصروف فمبلغ 100 ألف ليرة لا تساعد شاباً على فتح منزل.
خسارة رأس المال البشري
أعضاء في مجلس الشعب دقوا ناقوس الخطر محذرين من إفراغ سورية من شبابها،
والاتحاد العام للعمال على لسان رئيس الاتحاد جمال القادري في تصريح دعا الشباب لعدم السفر حيث ستشهد الأيام القادمة انفراجات كبيرة
ترضي الجميع.
ونوه بأنّ السعي لتأمين المستقبل والبحث عن فرص عمل أفضل أمر مشروع،
وخصوصاً أنّ الظروف المعيشية صعبة في الوقت الحالي وهناك نقص كبير في
الخدمات، وهجرة الشباب هي خسارة كبيرة من رأس المال البشري، فبعد ما عانته
سورية سابقاً تخسر اليوم من رأس مالها البشري سواء في المؤسسات العامة أو
الخاصة، فسوق العمل السوري تعرض لاختلال كبير كمي بالنسبة للعدد، ونوعي
بالنسبة للخبرات المطلوبة، ما أرخى بظلاله على القدرة الإنتاجية وبدأنا
نلمس ذلك، فما مرَّ على البلد من حرب إرهابية يشكل سبباً موضوعياً للهجرة،
وهناك – حسب القادري – أسباب غير موضوعية للهجرة كبعض التوجهات الحكومية
التي لا تذهب إلى الهدف مباشرة إضافة إلى القرارات غير الموضوعية.
وبما يخص الصناعيين والتجار أكد القادري أنهم يعانون وهناك أسباب موضوعية
دفعت عدداً منهم للمغادرة؛ منها نقص اليد العاملة الخبيرة وضعف سوق التصريف
وضيق أسواق التصدير، وهناك أسباب غير موضوعية تتمثل؛ بالقرارات الإدارية
المجحفة وبعض التصرفات لمفاصل العمل وعلاقاتها مع القطاع الخاص.
تهويل بعدد الصناعيين المهاجرين
وحسب القادري لابدّ من عدم الانجرار لحديث الشارع عن الأعداد للمهاجرين من
أصحاب المعامل فبعد التدقيق تبيّن أن عدد الصناعيين الذين أغلقوا معاملهم
ليس كما يشاع فهناك إغلاقات ولكن ليس كما يشاع، ولابدّ من التنويه بأن
خسارة أي صناعي تنعكس سلباً على العمال الذين سيخسرون فرص عملهم.
وأضاف القادري: أما إذا كان سبب الإغلاقات هو الإجراءات القانونية المتخذة
للحفاظ على حقوق الدولة والخزينة العامة، كموضوع التهرب من دفع الضرائب
والتهريب، فهل هناك دولة تتغاضى عن حقوقها وتحصيل ضرائبها؟ وخصوصاً في
أوقات الأزمات التي تفرض التزامات هائلة، ففي أوقات الرخاء كان هناك «غض
نظر» عن بعض الممارسات السلبية التي أثمرت ثروات هائلة حسب تعبيره، وعند
مطالبة الدولة بحقوقها من التجار والصناعيين يغادرون البلد هذا أمر غير
منطقي، فمن حق الدولة أن تحصّل حقوقها بوسائل عقلانية و مؤسساتية.
لابدّ من المتابعة
وطالب القادري بوضع موضوع الهجرة على طاولة الحكومة بشكل موضوعي وليس تحت
ضغط التهويلات والمبالغة بالأرقام وإيجاد الحلول الممكنة في هذه الظروف.
مضيفاً أن اتحاد العمال قدم العديد من المقترحات لكونه على تماس مباشر مع
مشاكل العمال، من تدني الأجور والرواتب والقضايا الحقوقية للطبقة العاملة
المتمثلة بتعديل القوانين لتأمين حقوق العمال، إضافة إلى إصلاح شركات
القطاع العام القابلة للإصلاح لتستوعب أكبر عدد ممكن من العمال، وتحسين
الخدمات من خلال البحث عن حلول موضوعية، مع التشديد بضبط الأسواق لمراعاة
الوضع المعيشي للعمال الذين يشكلون الشريحة الأوسع من المجتمع، ويطالب
الاتحاد دوماً بوضع هذه القضايا ومقاربتها بشكل عقلاني و موضوعي ومنطقي
للتخلص من الأسباب اللاموضوعية لما يحدث.
عاطفي ومشبوه
وما تحدث عنه اتحاد العمال عن تهويل إعلامي أكده رئيس اتحاد غرف الصناعة
فارس الشهابي الذي أوضح أن الأرقام المعلنة غير صحيحة, وهناك حالة من
التهويل الإعلامي لعدة أسباب منها: عاطفي ومنها مشبوه, ولا أحد يفكر
بالهجرة بسبب الضرائب والرسوم فهي موجودة في كل دول العالم، والصناعي
السوري ملتزم بها في دول الاغتراب، المشكلة هي في الأسلوب والطريقة
الجبائية كتكاليف الطاقة المرتفعة وعدم توافرها و تكاليف الشحن المرتفعة
والقرارات المتخبطة والمتناقضة التي تعوق العمل والإنتاج ولا تساعده.
وحسب الشهابي نحن أمام بيئة استثمارية غير مشجعة للاستثمار فلا سهولة في
حركة الأموال ولا حركة المواد ولا الإنتاج ولا التصدير، وهناك حالة من
الذعر في الشارع وانعدام ثقة متبادلة وانعدام كامل للرؤية التنموية
الاقتصادية الحكومية التي تقود منظومة الإنتاج و تحتضنها وترعاها وتحميها
وتحفزها.
أساس الجباية
وعن الحلول نوه الشهابي بأن الحل واضح وقدمناه في المؤتمر الصناعي في
حلب في تشرين الثاني عام ٢٠١٨ و لم تنفذه الحكومة حتى الآن، برغم أننا
قدمنا رؤية وخطة طريق متكاملة وواضحة وسهلة التطبيق، مشدداً على أن الرعاية
أساس الجباية وليس العكس، والتشغيل يغني التحصيل وليس العكس، باختصار
شديد.
وطالب الصناعيون على لسان الشهابي بإصدار قوانين خاصة وواضحة للمناطق
المتضررة من الإرهاب من أسواق و مناطق إنتاجية وتصحيح التشوهات الجمركية
التي أضرت بمئات المنتجين، ودعم التصدير بشكل أكبر و لشرائح أكثر، ومنع فرض
“الأتاوات” على الصناعيين وعرقلة عملهم من قبل بعض الجهات، إضافة إلى
الإسراع بتحديث التشريع الضريبي وأتمتته للتخلص من الشخصنة والأخطاء
والفساد وإيقاف الحملات الجمركية والمالية الحالية لأنها تزامنت مع بعضها
البعض وسببت حالة من الذعر في الداخل و الخارج..
كما لابدّ من إعطاء مهل زمنية لتسوية الأوضاع النقدية وأمور الشحن
والاستيراد قبل تطبيق القرارات المتعلقة بتمويل المستوردات وتعهد القطع،
وفتح سقف الإقراض للترميم والإنتاج حصراً، مع إعطاء الأولويات للمنتجين
المصدرين، وتوفير الحماية للمنتج الوطني بشكل ذكي عبر خلق بيئة تشريعية
تفضل الإنتاج على الاستيراد، وليس عبر المنع الأعمى غير المشروط، وأخيراً
تخفيف القيود على حيازة ونقل وتحويل العملات الصعبة للمنتجين المصدرين
ولمستوردي المواد الداخلة في الصناعة.
هجرة الأطباء
من جهته الدكتور فواز هلال المسؤول العلمي في رابطة اختصاصي التخدير وتدبير
الألم في سورية، أوضح أن الرابطة أول من دق ناقوس الخطر محذرة من هجرة
أطباء التخدير منذ أربع سنوات خوفاً من إخلاء سورية من الأطباء وهذا ما حصل
اليوم، فخريجو عام ٢٠٢٠ من أطباء التخدير استقطبتهم دول أخرى، وهذه الدول
حسب د.هلال تعيش حروباً ونزاعات وحتى أنها تعد من الدول الفقيرة، منوهاً
بما يتقاضاه طبيب التخدير في هذه الدول والذي يصل إلى عشرات الأضعاف مما
يتقاضوه في البلد.
وأضاف هلال: واقع أطباء التخدير مأزوم سلفاً على عكس بقية الاختصاصات،
وهناك تناقص دراماتيكي بعددهم منهم من قارب سن التقاعد وشبابه يتجهزون
للهجرة، وهناك ٤ أطباء تخدير يسافرون شهرياً، وإحصاءات رابطة التخدير لعام
٢٠٢٠ تقول إن عدد الأطباء نحو ٥٠٠ طبيب تخدير, وهو رقم مأخوذ من نقابة
الأطباء حسب الجداول لديهم، وهو رقم أكبر من الواقع، فزيادة الوفيات بين
الأطباء تجعل من اختصاص التخدير في مهب عاصفة تنذر بخطر كبير لعدم رفد
البلد بهؤلاء الأطباء، ولكون الجيل الشاب منهم خارج البلد.
الإخفاق الاقتصادي
أما الباحث الاقتصادي شادي أحمد فقد أوضح أنه وفق المعلومات المتوافرة هناك
هجرة متزايدة للشباب السوري يتوضح ذلك من خلال حجوزات الطيران لمناطق
معينة كمصر وشمال العراق في أربيل إضافة إلى المطالعات اليومية، ويختلف
السفر الآن عما حدث عام 2013 لكونها هجرة نوعية وهي ما يقال عنها هجرة
العقول، وهي خطيرة وسببها الأساس هو الإخفاق الاقتصادي، الذي واجهته
الحكومة فكان يجب مع تباشير النصر في عام 2016 أن يكون هناك عمل حكومي جاد
من أجل تعزيز البيئة الجاذبة التي توفر المجالات والفرص للشباب السوري
والصناعيين والمطورين السوريين بكل الوسائل, ولاسيما أنه كان معروف أن هناك
حرباً اقتصادية ستواجهها سورية وأعلنت عام 2018 في الشهر العاشر.
وحسب تعبيره الإخفاق في ضبط الحالة المعيشية وفتح الأسواق و فتح الفرص
الاستثماري أدى لإغلاق الأفق أمام السوريين الذين قرروا منذ اللحظات الأولى
لبدء الحرب الإرهابية على سورية البقاء في البلد، في الوقت نفسه أدركت
الدول الأخرى أهمية العقل السوري ففتحت الباب على مصراعيه أمامهم، كما أن
الحكومة انسحبت من الحياة الاقتصادية الاستثمارية, واكتفت بعملها المتعلق
بجعل قطاع الاستيراد هو القطاع الرائد للمجتمع السوري ما يؤدي إلى إضعاف
وتقليل فرص الشباب في العمل.
وحسب أحمد هناك قضية متعلقة بالدفع وضمان تدفق الدم الجديد في الإدارات
الحكومية, وأهمية تعديل قانون العاملين، حيث لا يمكن لشخص يملك خبرة كبيرة
وشهادات ورؤى وشخصية إدارية وحقق إنجازاً ما أن يقبل براتب يصل إلى 100 ألف
ليرة وقانون العاملين الموحد يلزم بهذا الأمر, وتالياً سيتوجه إلى المكان
الذي يأخذ فيه أعلى من هذا الأجر.
الحلول
والحلول أوضحها أحمد حسب البيئات الأربع, وأولها: تعديل البيئة القانونية
التي تحفظ رأس المال السوري والعديد من المودعين السوريين ويجب تعديل بعض
القوانين التي لا تناسب هذه المرحلة التي بالكاد استطعنا الخروج من الحرب
على سورية أقله بهذه الروح التي تطلع إلى إعادة الإعمار.
والبيئة التنظيمية لا بدّ من أن يكون هناك تعديل جوهري في وزارة الشؤون
الاجتماعية والعمل من خلال فصل وزارة الشؤون الاجتماعية عن وزارة العمل،
لتكون وزارة تنمية اجتماعية، وتحويل إلى وزارة العمل والموارد البشرية، ما
يعطي فرصة لتأسيس رؤية استراتيجية لضمان بقاء الشباب السوري في الوطن.
والبيئة الثالثة: البيئة المالية والتمويلية فهناك العديد من الشباب
السوري الخلاق بقدرات مبدعة، ولكن حتى الآن نجد الجهاز التمويلي متأخراً
جداً عن تمويل هذه المشاريع رغم صدور العديد من المراسيم والقوانين ولاسيما
ما يتعلق ببنوك دعم هذه المشاريع الصغيرة التي كانت على غرار البنوك
التقليدية من دون ميزات حقيقية لتوفير بيئة مناسبة للشباب والعقول السوري.
وأخيراً البيئة التشغيلية فالاحتكار الذي يشمل العديد من مناحي الاقتصاد
السوري وحماية بعض أقطاب الأعمال من الدخول إليها حرم الطاقات السورية
الجديدة من الدخول في هذه القطاعات ما سيغلق النفق ويجب احترام قانون
التنافسية وعدم الاحتكار، وإذا تم العمل على هذه القطاعات ستوجه رسالة
لبقاء العقول السورية داخل البلد.
تحولات في بنية المجتمع
الدكتور في التاريخ غدير أبو خليل بيّن أن قضية الهجرة من القضايا التي
أخذت اهتماماً واسعاً، فالهجرة من مكان إلى آخر لها أبعادها المختلفة منها
ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، والهجرة التي تحدث اليوم بالطبع هي
نتيجة تحولات في بنية المجتمع، وتعد واحدة من أخطر المشاكل التي لها
تداعيات أمنية واقتصادية واجتماعية، وحتى ثقافية على المجتمع وأبنائه،
فاستمرار سوء الأحوال الاقتصادية وتدهور الوضع المعيشي لأغلب المواطنين من
أهم الأسباب التي تدعو للهجرة وخاصة فئة الشباب.
إضافة إلى هجرة الحرفيين والعمال، أما بالنسبة للبعض من فئة التجار
والصناعيين والمستثمرين فالقاعدة تقول إن «رأس المال جبان» خاصة في بيئة
غير صحية للعمل أو الاستثمار، فنلاحظ أن الحالة المادية والفروقات الكبيرة
بين الرواتب والأجور وبين تحليق الأسعار، وظروف العمل وانقطاع حوامل
الطاقة، وارتفاع نسب البطالة، وحالة جمود الأسواق المختلفة، كلها أدت إلى
عدم استقرار معيشي فكانت هي أيضاً أحد الأسباب للسعي وراء الهجرة.
حُسن الإدارة
أخيراً شدد د.أبو خليل على تعلم دروس من التاريخ فالكثير من الأمم والدول
حتى تلك التي لا تمتلك مقدرات للنهوض نهضت وأبدعت وتقدمت كل ذلك بفضل
الإرادة الحقيقية التي تمتع بها أبناؤها وشعورهم الوطني بالمسؤولية
الجماعية والقدرة والكفاءة العالية على إدارة الأزمات لديها، ولا ينقصنا
شيء منها إلا حُسن الإدارة وتطبيق شعار«الأمل بالعمل».
تحقيق ألين هلال